لا يحب الله سبحانه وتعالى الاستعباد والهوان والقهر للناس الضعفاء من المتنفذين الأقوياء الذين أعطاهم الله القوة والسلطان بل يريد منهم أن يعاملوا الناس بالعدل ويعطوهم حقوقهم التي أعطاها الله لهم. 

قال الله تعالى: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ) [القصص: 5-6].
حدث هذا التمكين مع بني إسرائيل عندما استعبدهم واستضعفهم فرعون وسلط عليهم نائبه المتنفذ وأعطاه السلطة والجند لتنفيذ الأوامر وقهر العباد.
وحدث هذا مع المسلمين المستضعفين في مكة عندما تسلط عليهم أشرافها وأثرياؤها فمكن الله سبحانه المسلمين وجعلهم أئمة، ومكّن لهم في الأرض، ففتحوا مكة وأسسوا دولة في المدينة المنورة، وهزموا الفرس والروم وحرروا الناس من طغيانهم واستعبادهم.
فالمسلمون أخرجوا الرهبان الفارين في الصحراء من صوامعهم وأعادوهم إلى مدنهم وإلى قيادة أتباعهم وإقامة شعائر دينهم في كنائسهم في مصر وغيرها.
إن الاستخلاف في الأرض، والتمكين، وإبدال الخوف أمنًا، وعدٌ من الله لمن حقق شروطه، وقد أشار القرآن الكريم بكل وضوح إلى شروط التمكين، ولوازم الاستمرار فيه. قال الله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ* وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [النور: 55-56].
ولقد بينت الآية شروط التمكين وهي:
-الإيمان بالله بكل معانيه، وبكافة أركانه وممارسة العمل الصالح بكل أنواعه، والحرص على كل أنواع الخير وصنوف البر، وتحقيق العبودية الشاملة لله سبحانه وتعالى، ومحاربة الشرك بكل أسبابه وأنواعه وخفاياه، وأما لوازم استمرار التمكين فهي: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. [فقه التمكين في القرآن الكريم، أنواعه وشروطه وأسبابه ومراحله وأهدافه، علي محمد الصلابي، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، المنصورة: مصر ط1، ص: 157، 2001م].
والتمكين الإلهي في الأرض ليس معناه الانتصار على العدو واحتلال الديار والبلدان وقهر الشعوب ونهب الثروات واستعباد الناس وتفريقهم، فهذا تمكين استكبار واستعلاء وفساد لا يرضاه الله تعالى، ولكن حدد الله تعالى أهداف التمكين فقال: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) [الحج: 41].
الآية الكريمة تصرح بالنتائج التي تترتب على انتصار المؤمنين وتمكينهم في الأرض، إنها نتائج لمصلحة الإنسان ولفوائد المجتمعات فهي:
-لنشر الأخلاق الحميدة والفضيلة والسمو الروحي عن طريق العبادة (أَقَامُوا الصَّلاةَ). -ولنشر العدالة الاجتماعية عن طريق الزكاة (وَآتَوُا الزَّكَاةَ)، وليس عن طريق التأميم، والاستيلاء على ثروات الأغنياء ومصادرتها وتوزيعها على الناس. -ولتحقيق التعاون على خير المجتمع وكرامته ورقيه (وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ).
-التعاون على مكافحة الشر والجريمة والفساد والتخلف (وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ) [المرجع السابق، ص: 423].
-ومن أسباب زوال التمكين والخروج من الحياة الآمنة المطمئنة الكريمة:
-عدم الأخذ بالأسباب العلمية في الحياة (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَبا) [الكهف: 84-85].
-المعاصي والمنكرات وشيوع الفواحش (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [آل عمران: 155].
-الظلم وفساد القضاء، فالعدل أساس الملك والظلم سبب رئيس لزوال الملك، قال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) [القصص: 59].
-كما أن الشرك من أسباب هلاك الأمم وزوال التمكين، قال تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ) [الروم: 42].
ختمت الآية بقوله تعالى: (كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ) لبيان السبب الذي أورد أولئك الأمم هذه العاقبة السيئة، وذلك السبب هو شركهم بالله تعالى. وفي التقيد بالأكثرية دون الإطلاق في قوله (كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ) دلالة على أن الشرك وحده لم يكن سببًا في هلاكهم بل كان سببًا في هلاك أكثرهم، وما دونه من المعاصي سبب في هلاك القليل منهم.
وهلاك الأمم كلها كان بسبب الذنوب، قال تعالى: (أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ) [الأنعام: 6].
ومن أسباب زوال التمكين والهلاك الكفران بالنعم، وفتح أبواب النعم على الأمم مع إصرارهم على الكفر والتكذيب والمعاصي إنما هو استدراج لهم إلى الهلاك، فهم لم يزدادوا بتلك النعم إلاّ شرًا وبطرًا وكفرًا واستكبارًا، فانقلبت النعم نقمًا جلبت عليهم العذاب، قال تعالى: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ) [الأنعام: 44].
فبعض الأمم تعتبر كثرة النعم دليلا على النجاح والأفضلية على الآخرين، فيفتحون أبواب الفساد الأخلاقي باسم الفن وحرية الإبداع والحرية الشخصية وحقوق الإنسان، وهنا يسلط الله عليهم من الأسباب التي تزيل أممهم وتمكينهم في الأرض مثل:
انتشار الشذوذ الجنسي والمعاشرات المثلية، فيقل النسل وتبدأ تلك الأمم في النقصان في عدد السكان والتهديد بالانقراض، وتقل نسبة الأطفال عُدّة المستقبل والمعين الاجتماعي للمجتمع، وتقل نسبة الشباب والفتيان، ويزداد عدد كبار السن والعجزة، وتأتي الأمم الفقيرة المستضعفة للعمل في تلك البلدان وإحلال السكان الأصليين المنقرضين وتهلك الأصول البشرية ويحل محلها الأصول الجديدة وبذلك يزول تمكين المترفين المكذبين بالدين والأخلاق الشرعية.
هذا ما تواجهه الأمم العلمانية [بفتح العين] الأوروبية الآن، وهذا ما يهددها بالانقراض كما قال تعالى: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم) [محمد: 38].
وللحديث بقية بإذن الله..

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٣٧٢٠ – الجمعة ١٦ أكتوبر ٢٠١٥ م، الموافق ٢ محرم ١٤٣٧ هـ