ونصل في القراءة الاجتماعية والسياسية في سورة القصص إلى تلك القصة العجيبة المليئة بالعظات والعبر، إنها قصة قارون. قال تعالى: «إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ» (القصص: 76).

إنه من القوم الفقراء المستضعفين المستعبدين الذين يُقتل أبناؤهم وتُستحيا نساؤهم للسخرة والعبودية والخدمة من دون مقابل.
قال تعالى: «وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ» (القصص: 76). فالأموال عنده يصعب عدها وحصرها لكثرة خزائنها وكثرة حراسها، وبدلاً من أن ينفق جزءًا من هذا المال على قومه الضعفاء الفقراء «فَبَغَى عَلَيْهِمْ»، وتكبر عليهم واحتقرهم وأغاظهم وبيّن لهم فرحه بماله «قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ» (القصص: 76)، الفرحين فرح البطر والطغيان الناسين لأصولهم الفقيرة المحتقرين لقومهم الفقراء بعد أن أغناهم الله، فنسي الله، ونسي يوم البعث والحساب، إنه مُسَيْلمة الكذاب لليهود، ارتد عن دينهم وحاربهم وعاندهم وطغى وبغى عليهم، قال له قومه «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ» (القصص: 77)، يوم الحساب العظيم بإعطائك حقوق الفقراء وعدم الاغترار بالدنيا وزينتها، ولم يطلبوا منه أن يعود إلى حياته الأولى وحياتهم الحالية، حياة الفقر والحاجة، فقالوا له «وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا» (القصص: 77).
فتمتع بمالك وأعط الفقير حقه ونصيبه المفروض عليك من الله، «وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ» (القصص: 77).
فإن أحسن الله سبحانه وتعالى إليك بالمال فأعطِ الفقير منه وساعد المرضى وعلَّم الجهلاء.
وإن أحسن إليك بالجاه فلا تتكبر على الناس وساعدهم في قضاء حوائجهم وذبّ عنهم طغيان فرعون وهامان وجنودهما، فأنت بكل تأكيد مقرب إليهم، وإلا ما تركوك تطغى وتبغي وتخرج على قومك في زينتك التي تشابه موكب فرعون وزينته.
وإن أحسن الله إليك بالعلم فأحسن إلى قومك بالعمل على تعليمهم وتعيين من تعلمهم وتخرجهم من جهلهم.
«وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» (القصص: 77).
فلا تفسد الناس بزينتك ومواليك وخدمك وحشمك ومالك لأنّ الله تعالى لا يحب المفسدين، نصحوه، وحذروه، وأرشدوه ولكن لا حياة لمن تنادي.
رد عليهم ردَّ الباغي الطاغي المتكبر المغرور الجاحد بنعمة الله والمنكر للمنعم «قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي» (القصص: 78)، رد وقول كل كفّارٍ عنيد معتد مريب، أرجع النعمة للسبب وللأسباب ونسي مسبب الأسباب رب الأرباب سبحانه وتعالى «إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي» (القصص: 78)، نسي المُخّ والعقل والتفكير والحواس التي أنعم الله عليه بها حتى يتمكن من أن يتعلم، نسي أنه خرج من بطن أمه لا يعلم شيئًا من هذا العلم، وقد أنعم الله عليه بذلك، «أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ» (القصص: 78)، أين علمك الذي يعلمك سير السابقين المحيطة بك مساكنهم وآثارهم في كل مكان في مصر.
يعد قارون العدة للموقف الأخير «فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ» (القصص: 79).
العربات المسحوبة بالعبيد والخيول ذات العجلات المرصّعة بالذهب والفضة والمشغولات العجيبة، وطابور العرض زاهي الملابس منتظم الخطوة المحيط بعربة قارون الرئيسية، والعبيد يجرون حول سيارات الموكب، والطبول تدق، والمزامير تنفخ والنحاسيات تقرع، والمغنون يغنون، والنساء تزغرد، والحرس يوسّعون الطريق ويذبون المتفرجين والمبهورين.
«قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا…» (القصص: 79) الجهلاء، قصيرو النظر، قليلو العقل والدين، قالوا: «...يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» (القصص: 79)، «وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً» (القصص: 80).
إنه قول العلماء العقلاء المؤمنين «وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ» (القصص: 80).
– الصابرون على ما رزقهم الله.
– الصابرون على التمسك بدين الله.
– الصابرون على الفتنة التي يحدثها المال في أمثال قارون.
وفجأة، «فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ» (القصص: 81)، ابتلعت الأرض دار قارون الباهرة وأموال قارون المقنطرة، وموكب قارون المبهر، والمحيطين بقارون ابتلعتهم الأرض وأصبحت لا ترى زينتهم ولا يرى فرحهم وبطرهم وطغيانهم، ولا يُسمع لهم صوت، وانصرف الناس من حوله ولم يجد من يخلصه من الخسف والابتلاع، ولم ينصره أحد حتى بالمواساة والكلمات، وكان من الخاسرين «وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ» (القصص: 81)، «وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ» (القصص: 82)، ويعودون إلى رشدهم ودينهم وربهم ويقولون «لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ» (القصص: 82).
لقد خسف الله بقارون ونجاهم من الدمار.
– وتأتي النتيجة العامة، الموعظة الكبرى من موقف قارون وموقف فرعون وكل طاغية «تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» (القصص: 83-84).
ولله عاقبة الأمور والحمد لله رب العالمين.
وللحديث بقية بإذن الله..

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٣٧١٣ – الجمعة ٩ أكتوبر ٢٠١٥ م، الموافق ٢٥ ذو الحجة ١٤٣٦ هـ