يقضي سيدنا موسى عليه السلام مدة العقد والاتفاق مع الشيخ الكبير، ويحنّ موسى لموطنه وأمه وأخته وأخيه، يخبر الرجل بأنه قضى الأجل ووفى بالعقد ويود الرجوع إلى وطنه الذي لم يفارق مُخيلته طول المدة التي قضاها في مدين.

قال تعالى: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أو جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُون) [القصص: 29].
بعدما عاش سيدنا موسى عليه السلام في البادية يرعى الأغنام ويسوسها ويصبر عليها ويعتني بها، وبعدما عاش مع أسرة صالحة بعيدًا عن قصر الفرعون وحشمه وجنده الذي تربى فيه من قبل، حان الوقت لإرساله إلى فرعون.
يبين الله تعالى له العديد من المعجزات الدالة على صدقه إلى فرعون (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ) [القصص: 32].
يقول موسى (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُون) [القصص: 34].
فهارون عاش طوال حياته في مصر ولم يغادرها، ولم يبعد عن الشعب ولم يسكن في القصر، فهو قدير بمخاطبة الناس في سهولة ويسر
يصل موسى وهارون إلى فرعون يعرضان عليه مهمتهما في هدوء ولين، يعود فرعون إلى المنفذ لرغباته هامان، يقول (فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إلى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ) [القصص: 38].
يقول بعض المفسرين إن سيدنا موسى أبلغ فرعون بعلو الله سبحانه وتعالى وأنه سبحانه في سمائه بائن عن خلقه، فكان الطلب ببناء صرح عالٍ من الطين المحروق ظنًا منه أنه سيصل إلى علو يسمح له برؤية الله سبحانه وتعالى.
وبعد جولة في آيات السورة الإيمانية تأتي آيات الله الكونية فيقول سبحانه (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلا تَسْمَعُونَ* قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ* وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [القصص: 71-73].
يبين الله سبحانه وتعالى لعباده أنه سخر لهم الليل والنهار اللذين لا قوام لهم بدونهما -أخبروني أيها المكذبون إن جعل الله وقتكم كله ظلامًا، فجعل الليل عليكم دائمًا إلى يوم القيامة، فيحصل لكم السأم والضجر والضرر، إن حدث ذلك فمن الإله غير الله الذي يتمكن من الإتيان بضياء النهار، أفلا تسمعون ذلك سماع تدبر وتفهم وتفكر، فتقلعوا عن الإشراك بالله، لأنّ كل من بسوى الله عاجز عن ذلك وغيره، ثم ذكر العكس فقال: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [القصص: 71] أي: وقل لهم أيضًا أيها الرسول: أخبروني إن جعل الله زمنكم كله نهارًا فجعل النهار دائمًا متصلاً إلى يوم القيامة من دون أن يعقبه ليل، فتتعب الأبدان وتكل الأجسام فمن ذلك الإله غير الله يستطيع الإتيان بليل تستقرون وتستريحون فيه أفلا تبصرون هذه الظاهرة والحقيقة الكونية الدالة على القدرة الإلهية التامة، فتعلموا أن المستحق للعبادة والتأليه هو الله سبحانه وتعالى المنعم بهذه النعم.
ومن رحمته بكم أيها الخلق تعاقب الليل والنهار وتفاوتهما، فجعل لكم الليل ظلامًا للراحة والسكن والاستقرار وهدوء النفس من عناء العمل النهاري، وجعل لكم النهار مضيئًا لتبصروا منافعكم وتحصلوا فيه معايشكم، وتتنقلوا فيه من مكان إلى مكان، ويمتلئ بالحركات والأشغال، بحثًا عن موارد الرزق، وقضاء الحاجات بكفاءة لا تتوافر في العمل الليلي، فتشكروا الله بأنواع العبادات ليلاً ونهارًا على ما أنعم عليكم من هذه النعم من دون أن يشاركه فيها شريك، دل هذا بحق على أن تعاقب الليل والنهار من أعظم النعم على المخلوقات، بل ومن البراهين الدالة على القدرة الإلهية. [التفسير المنير، وهبه الزحيلي، مرجع سابق، ج20، ص: 154].
في هذه الآيات تنبيه إلى أن العبد ينبغي له أن يتدبر نعم الله عليه، ويستبصر فيها، ويقيمها بحال عدمها، فإنه إذا وازن بين حالة وجودها وبين حالة عدمها تنبَّه عقله لموضع المنَّة، بخلاف مَنْ جرى مع العوائد، ورأى أن هذا أمر لم يزل مستمرًا ولا يزال وعمي قلبه عن الثناء على الله بنعمه ورؤية افتقاره إليها في كل وقت، فإنّ هذا لا يحدث له فكره شكرا ولا ذكرا.
ومن مواقع العبر ومواضع الآيات فتستنير بصائركم وتسلكون الطريق المستقيم، وقال في الليل (أَفَلا تَسْمَعُونَ) وفي النهار (أَفَلا تُبْصِرُونَ)، لأنّ سلطان السمع في الليل أبلغ من سلطان البصر وعكسه النهار. [تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبدالرحمن بن السعدي، مرجع سابق].
وعلميًا فإنّ في النهار تتم أعظم وأعجز عملية حيوية على الأرض يترتب عليها تثبيت الطاقة الشمسية الهائلة، وإنتاج الكميات الهائلة من المواد الغذائية النباتية وإنتاج الأكسجين الجوي من انشطار الماء داخل النبات، إنها عملية البناء الضوئي المعجزة والمقدرة تقديرًا إلهيًا عجيبًا، وفي الليل يكمل النبات العمليات المرتبطة بتفاعلات الضوء بتفاعلات الظلام.
وتتابع الليل والنهار واختلافهما في الخصائص يؤدي إلى تكوين هرمون الإزهار [بكسر الهمزة] في النباتات الزهرية والذي يتوقف على وجوده بأنسجة النبات إلى تكوين الأزهار [بفتح الهمزة] والتي تكون الثمار والبذور والحبوب والمنتجات النباتية الأخرى.
وللحديث بقية بإذن الله

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٣٧٠٦ – الجمعة ٢ أكتوبر ٢٠١٥ م، الموافق ١٨ ذو الحجة ١٤٣٦ هـ