أشار سيدنا يوسف على الملك والمسؤولين بحسن إدارة الأزمة، والاستعداد لوقت الشدة بالإمكانات المادية ولكن هذا الجانب وحده لا يكفي، فلا بد من الإشراف العلمي المخلص على إدارة الأزمة، فأعد سيدنا يوسف العدة فقال للملك: «اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيم» (يوسف: 55).

قال يوسف: اجعلني أيها الملك على خزائن الأرض: وهي الخُزُن التي تخزن فيها الغلال وهي الصوامع التي تجمع فيها الغلال، أي: ولّني عليها؛ لأشرف عليها بنفسي وأتصرف فيها حتى أجعل توازنًا اقتصاديًا بين سنوات الخِصْبِ وسني القَحْط، فتنقذ البلاد من المجاعة التي تهدد أهلها، بحسب الرؤيا التي أرانيها الله، لأني حفيظ على المخزون عليم بالتوزيع أي خازن أمين، ذو علم وبصيرة لما يتولاه ودين، وفي هذا بيان لأهمية التخطيط والتنظيم الاقتصادي والتوازن بين الموارد والنفقات.
فأجابه الملك إلى طلبه، وجعله وزيرا للمالية والخزانة والتموين، وأطلق له سلطة التصرف في شؤون البلاد الاقتصادية لما لَمِسَ لديه من رجاحة العقل، والعلم، والخبرة وضبط وسياسة وحسن تصرف، وقدرة على إحكام النظام، وإعداد كشوف العائلات والأفراد والإحصاء. (انظر التفسير المنير, مرجع سابق، ج13، ص: 9).
عندما قال سيدنا يوسف لإخوته «ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ» (يوسف: 59)، لم يستغرب إخوته هذا الطلب، وهذا يدل على وجود إحصاء للأفراد والعائلات وأعمارهم وهذا أيضًا من حسن إدارة وتدبير سيدنا يوسف للأزمة حيث توجد كشوف بالمستحقين، وكشوف بالوارد وكشوف بالمنصرف والمتسلمين والكمية فليس للعشوائية والاتكالية والمحسوبية والفساد مجال في هذه الإدارة الواعية المؤمنة العليمة الحفيظة، ولا مجال للوسطاء وتجار السوق السوداء والسُّراق.
ما أحوجنا إلى إدارة حفيظة عليمة يتولاها أناس مخلصون يتأكدون من وصول الحقوق لأصحابها، والدعم الذي تقدمه الدولة إلى مستحقيه.
وإذا انصلح حال مصر واكتفت غذائيًا وزراعيًا وصناعيًا استطاعت أن تؤمن حياة شعبها والشعوب المحيطة بها، فإخوة يوسف جاؤوا من أرض كنعان للحصول على الغذاء من أرض الكنانة ورُمّانة ميزان المنطقة الزراعي والإداري والعلمي.
«وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ» (يوسف: 56-57).
فالمقومات العالية من علم وخلق وأدب وحسن تصرف وعقل وإبداع وإخلاص تبوئ صاحبها المنزلة السامية والمكانة الرفيعة. (المرجع السابق، ص: 11).
مكَّن الله تعالى ليوسف بعلمه وخلقه وأمانته وهذا درس للمتسلقين والمتزلفين والمرتشين والفاسدين الذين يسلكون المسالك المعوجة للوصول إلى المناصب والوظائف، هؤلاء كل همهم المناصب والمكاسب الدنيوية ونسوا أن ثواب الآخرة خير وأبقى للمؤمنين بالله المتقين الله حيثما كانوا، المحسنين في أعمالهم وأقوالهم المخلصين لله تعالى في نياتهم وأعمالهم.
ما أحوجنا إلى جيل رباني علمي أخلاقي يتولى إدارة هذه الأمة الإسلامية التائهة بين الأمم المستضعفة، ما أحوجنا إلى شباب في قوة سيدنا يوسف يعمل لوجه الله ولخدمة أوطانهم وإخوانهم في الوطن يصلحون ولا يفسدون يعملون بكل طاقاتهم وجهدهم لتنمية أمتهم وأوطانهم على أساس علمي أخلاقي شرعي.
ما أحوجنا إلى تعرف الكفاءات المغمورة غير المعروفة نقدمها لتحمل المسؤولية في إدارة شؤون الوزارات والمؤسسات المختلفة بالدولة مع الحفاظ على النظام القائم وتطويره بالجهد والعمل والعلم، لقد أثبتت الأيام أن الهدم الشامل للدولة أضراره جسيمة تدفع الشعوب ثمنها ويؤدي إلى الفتنة وذهاب الدولة والقوة.
يجوز لأصحاب الكفاءات التقدم للوظائف العليا وإظهار علمهم وكفاءتهم ويتم التأكد من إخلاصهم وصدقهم ثم تترك لهم الأمور يديرونها مع الإشراف الدائم عليهم والتقويم الدائم لأدائهم.
ما أحوجنا إلى الإصلاح الحقيقي بعيدًا عن النظريات والتنظيرات الكلامية والورقية.
سيدنا يوسف أعد نفسه الإعداد العلمي ووطن نفسه على المبادئ والأخلاق الحميدة فقدم سيرته الذاتية «إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» (يوسف: 55)؛ فالأخلاق وحدها لا تكفي، والعلم وحده لا يكفي، لا بد من المزاوجة بين الاثنين «إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ».
وهذا درس لمن فتحوا المدارس والجامعات الهادفة إلى الربح تعطي الدرجات العلمية ولا تؤكد الأمانة والأخلاق واحترام العادات والتقاليد الإسلامية، إنه درس لمن ينادون بالعلمانية (بفتح العين) وإبعاد الدين والأخلاق عن المؤهلات، درس لمن يزكون الناس على أسس مادية بحتة فتكون النتيجة تلك المخالفات الخلقية في المهن المهمة والمؤثرة في حياة الناس.
ما أحوجنا إلى دلائل حقيقية بعيدة عن الاتهامات الباطلة والكاذبة (قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ) (يوسف: 77).
ما أحوجنا إلى التأسي بسيدنا يوسف في المصالحة الأسرية والمصالحة الوطنية والاجتماعية «قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» (يوسف: 92).
إنه يذكرنا بخير البشر وخاتم الأنبياء والرسل الفاتح المنتصر الأمين عندما قال لقومه: اذهبوا فأنتم الطلقاء، وقال لهم من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن. وقال: أجرنا من أجرت يا أم هانئ، إنها المصالحة الوطنية الشاملة التي تفتح باب الحوار الوطني لينطبق علينا قول الله تعالى: «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ» (قريش: 3-4).
الأمن الداخلي الشامل والأمن الخارجي الشامل الذي يحقق الرخاء الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والعبادة الحقة لرب العالمين.
«قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ» (يوسف: 97)، إنها المصارحة المؤدية إلى المصالحة والمغفرة للذنوب، المصارحة والمصالحة الناقلة من البداوة إلى المدنية، «قَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ» (يوسف: 99), وقال يوسف: «وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» (يوسف: 100).
وتأتي الخاتمة الرائعة «قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (يوسف: 108).
إنها الدعوة إلى الصراط المستقيم على بصيرة وعلم، وعلى منهاج التوحيد الخالص، في عمل جماعي بعيد عن الغلو والطائفية والغلو في المعتقد والسلوك.
والحمد لله رب العالمين.
وللحديث بقية بإذن الله.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٣٦٨٥ – الجمعة ١١ سبتمبر ٢٠١٥ م، الموافق ٢٧ ذو القعدة ١٤٣٦ هـ