بعد أن تعهد سيدنا موسى عليه السلام أمام ربه سبحانه وتعالى أن لا يستخدم نعمه في الإجرام والفساد (وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلا يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ* فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [القصص: 20-21].

إنه الموقف العصيب والفتنة المتحفزة، جاءه الناصح الأمين الصادق أخبره بما يُدبَّر له فأسرع موسى بالخروج من البلاد وتوجه إلى الله أن ينجيه من القوم الظالمين الذين يريدون أخذ الحق منه بأيديهم ودون محاكمة أو استبيان وتبين (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ) [القصص: 22]، فلا ملجأ من الله إلا إليه، ولا مفر من قضاء الله إلا بقضاء الله، اجتهد موسى في السير والخوف يملأ قلبه، والجوع يقرص معدته، والطريق يبلي نعليه ولا طعام إلاّ مما تنبت الأرض بريًا ولسانه لا يمل ولا يفتر من دعاء الله.
وجاء الفرج (وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ) [القصص: 23].
دقق موسى في الموقف وقرر كعادته التقدم لحل الموقف (قَالَ مَا خَطْبُكُمَا)؟! ما خبركما وماذا تريدان؟! (قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) [القصص: 23].
إنها التربية الإيمانية السوية للمرأة المسلمة، سُئلت بأدب فردت بأدب، سُئلت بوضوح وجدية، فردت بوضوح وجدية، يريدان سقي أغنامهما، والزحام شديد على الماء، والخلطة في الزحام مفسدة ينتظران الدور بأدب وتأنٍ وصبر.
يمسك موسى بالدلو ويرفع الماء لهما ويسقي أغنامهما. هذه شهامة الرجل المؤمن.
فور سقاية الأغنام، يقصد إلى الظل ليجلس فيه، ومع كل هذا التعب ومع هذه الغربة والجوع والنعل البالي يقول في إيمان (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِير) [القصص: 24].
إنه شكر النعمة، ورؤية الجانب المضيء من الموقف الصعب، وهَبَهُ الله تعالى القوة لمساعدة المحتاجين والضعفاء وهذا خير كبير، فيقول: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِير) [القصص: 24] ، لم يكثر الكلام مع المرأتين، ولم يتدخل في ما لا يُعنيه، ولم يطلب مقابلاً لما بذله من جهد معهما.
-الشكر يعجل بالخير، والشدة مع الاحتساب باب واسع للفرج (فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء) [القصص: 25] الأرض تحت قدميها تزخر بالحياء والعفة في المشي والطهر في الحركة، والوضوح في القول (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) [القصص: 25]، لا يتمنع موسى ولا يتصنع ويذهب في أدب إلى الرجل.
سأله الرجل الصالح عن قصته (وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) [القصص: 25]، يقول الرجل لموسى (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [القصص: 25].
يطمئنه أولاً، ويبشره بالنجاة من أرض الظالمين، وفعل الظالمين، وعيون الظالمين، وجنود الظالمين، فلا سلطان لفرعون على ديار مدين، إنها خارج سلطة فرعون وعيون فرعون وجند فرعون.
أصبح الرجل الصالح في مشكلة عليه أن يضع لها الحل الشرعي، كيف يقيم هذا الرجل الغريب مع ابنتيه وهو ليس بمحرم لهما، وكيف يتزوج إحداهما ولا مال معه «مهرًا للزواج»؟!!!
قالت البنت (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْه) [القصص: 26] ثم وضعت تبريرًا لطلبها (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ) [القصص: 26].
الرعي والسقاية والحراسة تحتاج إلى قوة وهو والحمد لله قوي رفع الدلاء من البئر ونزعها بقوة وسرعة وسقى الأغنام في وقت قياسي، وقد كان أمينًا عندما سألهما، وأمينًا وهو يسقي لهما، وأمينًا وهو ذاهب معها إلى بيتها، وأمينًا في عرض قصته.
يضع الرجل الصالح الحل للرجل الأمين (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ) [القصص: 27].
وطمأنه على حقوقه في العقد (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) [القصص: 27].
وضع موسى شروطه بوضوح (قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) [القصص: 28].
عقد بين رجلين صالح وأمين، عقد واضح البنود لا غموض فيه لا استغلال أو تدليس.
عقد يحل مشكلة الشاب الأمين والرجل الكبير، ويراعي حدود الشرع في الإقامة ويدبر العمل للزوج، وهكذا يجب أن تحل مشكلات الزواج عندنا بعدما عقدنا الأمور وعُدنا للجاهلية الأولى وفرقنا المسلمين إلى طبقات ووضعنا الحواجز بين الناس، وفضل الوالد حرمان ابنته من الزواج على تزويجها بشاب مسلم صاحب خلق ودين ولكنه فقير غريب ليس من أهل المكان.
نبي الإسلام يقول: إن جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه.
والجاهلية تقول: الحسب والنسب فوق الأخلاق والدين.
نعم إن الكفاءة مطلوبة، ولكن البعض في البلاد الإسلامية يزوج ابنته لشحاذ في بلده ولا يزوجها لوجيه وعالم مسلم ليس من بلده.
حلت المشكلة الاجتماعية والاقتصادية لسيدنا موسى وللرجل الكبير وللبنتين وعاشت الأسرة في سعادة وهدوء ورضا وإيمان.
وللحديث بقية بإذن الله..

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٣٦٩٩ – الجمعة ٢٥ سبتمبر ٢٠١٥ م، الموافق ١١ ذو الحجة ١٤٣٦ هـ