عندما تزوجت ورزقني الله تعالى بالذرية حرت في المنهاج الذي اتبعه في تربية أبنائي وما أبرز الصفات التي أود تربيتهم عليها، وفكرت طويلا، وقرأت كثيرا، وأخيرا هداني الله سبحانه وتعالى أن أركز في تربيتهم على الصدق وأن أبدا بتوطين نفسي معهم على الصدق

وفعلا بدأت هذا المنهاج والآن بعدما كبر أولادي ورزقوا بالذرية والحمد لله أجدهم يطبقون المنهاج نفسه في حياتهم وحمدت الله على ذلك كثيرا، ولكن لماذا اخترت صفة الصدق بخاصة؟

أسوأ صفة يتربى عليها الإنسان هي الكذب، الكذب في العقيدة، الكذب في العبادة، الكذب في العمل، الكذب في البيع والشراء، الكذب مع الزوجة والأولاد، فإذا كذب الزوج على زوجته ووجدته يستحل الكذب ويتوسع فيه معها فلن تثق به أبدا، وكذلك الزوجة إذا كذبت على زوجها وتوسعت في الكذب فلن يثق بها أبدا , وستتحول الحياة إلى صراع بين الحقيقة والكذب، ويدب الشك في النفوس وتتمترس النفوس خلف ركام الكذب وتختبئ في سراديبه ويضيع الأبناء بين صدق الوالد وكذبه وصدق الأم وكذبها وتتهلهل الأسرة وتتمزق، هكذا علمتني الحياة.

وعندما يكون الكذب عقيدة وسلوكا ومنهاجا ودين فإنك تتشكك في كل كلمة يقولها الكاذب، وتضع المحاذير أمامك منه لأنه كذاب، ولذلك كان الهدي النبوي الكريم: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة و ما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا» رواه البخاري.

يا له من طريق منج وجميل! طريق الصدق يهدي صاحبه إلى البر والبر يهدي إلى الجنة مع الصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، إنها النجاة الحقيقية والمتعة الدائمة في الصدق وتحري الصدق والمداومة عليه.

ويا له من سلوك مهلك وخبيث! سلوك الكذب يهدي صاحبه إلى الفجور، الفجور في القول والفعل، والفجور يوصل صاحبه إلى النار مع أبي لهب وهامان وقارون وفرعون والنمرود وساء أولئك رفيقا، إنها رفقة الكذب في العقيدة والسلوك والقول والفعل.
والكذب هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه سواء كان عمدا أم خطأ.
قال التهانوي: الكذب خلاف الصدق، قيل هو قبيح لعينه وقيل لما يتعلق به من المضار الخاصة.

والكذب يكون في الأقوال وهو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه، وقد يكون في الأفعال والكذب في الأفعال أشد خطرا وأقوى تأثيرا من الكذب في الأقوال كما حدث مع إخوة سيدنا يوسف عليه السلام إذ جاءوا أباهم عشاء يبكون بكاء كاذبا وقالوا كذبا “قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ{17} وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ” (يوسف/17-18)، فجمعوا بين كذب القول وكذب الفعل .

وقد رأينا بأم أعيننا من يفعل فعل إخوة يوسف ويزور الحقائق ويأتي بدم كذب وفعل كذب ويقف أمام الناس يزور الكذب وأمام القضاء يقول الكذب بأدلة الكذب، يا لها من معجزة ربانية نراها أمام أعيننا ماثلة تتكرر بلا حياء أو خوف من الله أمام وسائل الإعلام وفي المحاكم وبين يدي القضاء! 

قال الراغب: الكذب يكون قبيحا بثلاثة شرائط: الأول: أن يكون الخبر على خلاف المخبر عنه.

الثاني: أن يكون المخبر قد اختلقه قبل الإخبار به.

الثالث: أن يقصد إيراد ما في نفسه.

والكذب يكون أشد قبحا في الحاكم الذي يكذب على شعبه، وفي شيخ الدين المعمم الذي يجعل الكذب مطية له لتحقيق أغراضه الدنيوية والمذهبية والطائفية , وفي السياسي الذي يكذب ويكذب ويكذب على أمل أن يصدقه الناس , وفي الصحفي الذي يلفق الأخبار لينتصر لرأيه ويحقق أهدافه , وفي المعلم الذي يكذب أمام تلاميذه ويحاول تبرير ذلك الكذب , وفي الوالد والوالدة اللذين يكذبان أمام أولادهما.

كل هذه مواطن يستقبح فيها الكذب لأن حبال الكذب قصيرة وواهية ومهلكة وموصلة إلى النار , أما حبال الصدق فمتينة ومنجية ومدعاة إلى الاحترام والتقدير وموصلة إلى الجنة.

وفي قصة الثلاثة الذين تخلفوا في غزوة تبوك في ساعة العسرة وخَلَفَهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقبل توبتهم وقبل توبة الكاذبين وتحمل الصادقون المقاطعة خمسين يوما وليلة حتى ضاقت عليهم أنفسهم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت كما أخبر الله تعالى في كتابه ولكن نجاهم الله تعالى بصدقهم وإصرارهم على الصدق وثقتهم بأن الله منجيهم بصدقهم قال تعالى: “لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ{117} وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ{118} يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ” (التوبة 117-119)، أمر من الله أن نتقيه ونكون مع الصادقين في أقوالهم وأفعالهم ونياتهم ومقاصدهم وقال ابن القيم رحمه الله في الفوائد: (فإن الكذب يصور المعدوم موجودا، والموجود معدوما والحق باطلا والباطل حقا، والخير شرا والشر خيرا، فيفسد عليه تصوره وعلمه عقوبة له ثم يصور ذلك في نفس المخاطب(.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي -العدد (12061) – الجمعة 27 ربيع الآخر 1432هـ – 1 ابريل 2011م