من القواعد القرآنية «وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً» (الاسراء:36).

فكل من يفتي بغير علم سيسأل أمام الله عن فتواه بلا علم، ومن يفسر الأحلام بغير علم فسوف يسأله الله عن ذلك فتفسير الرؤى علم يحتاج إلى خصائص مميزة للمفسر، وقبل ذلك مقدرته على التفريق بين الحلم والرؤية، كما أن التوسع في سرد الأحلام وتفسيرها من الخطأ، كما أن الأحلام والرؤى لا تقام عليها أفعال وأحكام، وقد شاهد السجينان مع سيدنا يوسف صدق تفسيره للرؤيا «يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ» (يوسف:41) وتحققت تلك الرؤى ونجى من رآه ناج وهلك من رآه هالك.
وعندما رأى الملك الرؤيا قال سيدنا يوسف: «قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ *ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ» (يوسف 47-49).
يثير البعض شبهة حول قول الله تعالى «ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ» (يوسف:49) وقالوا ان أرض مصر تروى بالنيل والغوث يدل على المطر فكيف نفسر ذلك.
والمعلوم علميا أن الساحل الشمالي لمصر كان مخزن الحبوب في عهد الرومان ومازالت الآبار الرومانية موجودة إلى الآن، وقد شاهدتها بنفسي في الرحلات العلمية للساحل الشمالي لمصر، والناس هناك يبذرون الحبوب ويأتي المطر وينبت النبات وينمو ويعطي الحبوب، وفي نفس المكان يزرع العنب والتين، وقد تغير المناخ بالاحتباس الحراري والنشاط الصناعي وقل المطر في الساحل الشمالي، فالحكم على صحة الآية يكون وقت نزولها وليس الآن.
كما أن غوث الناس في مصر بمياه النيل يتوقف على هطول الأمطار في منابع النيل في الحبشة وجنوب السودان فإن انقطع المطر في منابع النيل توقف ورود ماء النيل، وإن سقطت الأمطار فاض وغمر الأرض في مصر وزرع الناس فلا مجال لهذه الشبهة إلا عند الجهلاء بالجغرافيا والطقس والنبات والزراعة.
أفلا يتدبرون القرآن؟!!
في السنوات السبع الأولى فاض النيل وأمطرت السماء في الساحل الشمالي، وفي السبع التالية قل المطر إلى الدرجة التي لم تنبت الحبوب، ولمن ينتج التين والعنب، وعندما جاء المطر زرع الناس وأثمر العنب وعصر الناس.
وقد نبههم سيدنا يوسف إلى أمرين مهمين يحفظان إنتاج القمح في السبع سنين الخصيبة وهي وضعه في الحصون وترك الحبوب في سنابلها، والحصن هو المطمور حيث توضع الحبوب في مخازن تحت الأرض محكمة وتغطى بتراب حريق الأفران ثم يحكم غلقها تماما.
وهذا الغلق يمنع الأكسدة الضوئية والأكسدة الهوائية وهما من عوامل فساد الحبوب والبذور، ويقوم السودانيون بفعل ذلك الى الآن مع الذرة الرفيعة، وقد شاهدت ذلك في قناة السودان الفضائية، والمصريون في الصعيد يضعون فول التدميس في نفس الجور ويسمونها المطمورة أو المكمورة ويسمى الفول بفول المكمورة.
وترك الحبوب في أغلفتها وعلى محاورها السنبلية يؤدي الى حفظ تلك الحبوب للأسباب العلمية التالية:
– الأغلفة بها مواد مثبطة للنمو تمنع إنبات الحبوب وهي على النبات الأم وبأغلفة الحبة مواد مثبطة للنبات تمنع إنبات الحبوب وقت الدراس والتذرية والتخزين السليم.
– الأغلفة تحمي الحبوب من الجفاف أيام الصيف وتحميها من الرطوبة الخارجية أيام الشتاء.
– الأغلفة تحفظ درجة حرارة الحبوب من الارتفاع الشديد في الصيف والانخفاض الشديد في الشتاء لأن هذه الأغلفة عازلة للحرارة، وهذا يحفظ الحبوب بعيدا عن التأثيرات الخارجية، ويساعد على حفظ حيوية الجنين، وصلاحية الغذاء المدخر بالحبوب لمدة أطول.
– الأغلفة المحيطة بالحبوب تمنع وصول الرطوبة إلى الحبوب أو فقدانها لرطوبتها الذاتية وخاصة أن تلك الأغلفة المحيطة بالحبوب ملجننة الجرد ولا تتشرب الرطوبة بسهولة وبذلك لا تنمو الفطريات عليها وخاصة الأجناس: الأسبرجيللاس وعفن الخبز والبنسليوم، وهذا يحمي الحبوب من التحلل والتعفن أو احتوائها على سم الأفلاتوكسين، وهذه المادة السامة تؤدي الى سرطان الكبد.
– وجود أغلفة السنبلة بين الحبوب يؤدي الى تهويتها وعدم تكدسها لأن عدم التهوية والتكديس من اسباب تعفن الحبوب والبذور.
– الأغلفة المغطاة للحبوب تمنع عملية الأكسدة الضوئية للمحتويات الغذائية المدخرة بالحبوب، وتمنع تزنخ المواد الدهنية فيها، وتحافظ على بروتينها من التغيير، فالضوء يؤدي الى عملية الأكسدة الضوئية والاسراع في تزنخ الدهن ويغير تركيب المواد الغذائية بالحبوب.
– الأغلفة تحمي الحبوب من السقوط المباشر لجراثيم الفطريات والخلايا البكتيريا عليها فلا تنمو الجراثيم على الحبوب وتتلفها بسهولة.
– وكما قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله في تفسيره التحرير والتنوير:
الاحصان في قوله تعالى: «ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ» (يوسف:48)، هو لوضع في الحصن أو المطمور، وكما قال الرازي، المطمورة: حفرة يطمر فيها الطعام، أي يخبأ وقد طمرها أي: ملأها.
– هذا الطمر يمنع فقس البويضات الداخلية التي وضعتها الحشرات داخل الحبوب قبل نضجها وهي غضة، والحصن يحمي الحبوب من الحشرات الخارجية والفئران والطيور، والأنعام والأغنام والحمير واللصوص والأمطار والسيول.
ولذلك قال لهم سيدنا يوسف عليه السلام «فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ» (يوسف:47).
وقال: «ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ» (يوسف:48).
أمل في المعصور فلم يرشدهم الى حفظه حتى لا يتحول الى خمر معتق وهو سريع التلف ولا يتحمل التخزين مدة سبع سنين وقد يتسبب في تسميم من يتناوله وهو ليس أساس للغذاء مثل الحبوب والبذور.
– ما أحوجنا الى القراءة العلمية المتخصصة للآيات لنتعلم الأخذ بالأسباب والبحث عن وسائل حديثة لحفظ الطعام وانتاج الغذاء والاكتفاء الذاتي.
مصر كانت مزرعة انتاج الحبوب للمنطقة المحيطة بها، وكان فيها من الامكانات والخبرات الحفيظة والعليمة ما جعلها تؤمن غذاءها وغذاء الناس من حولها.
فما أحوجنا الى العودة الى هذا التقدم الزراعي والتقني في ديارنا العربية بالذات.
وللحديث بقية بإذن الله

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٣٦٧٨ – الجمعة ٤ سبتمبر ٢٠١٥ م، الموافق ٢٠ ذو القعدة ١٤٣٦ هـ