يدعي غير العالمين أن الإسلام دين لا حوار فيه ولا تفاهم إلا بالسيف، وهذه فكرة خاطئة جسدها من أرادوا تفريغنا من قوتنا أمام قوتهم، وبعد أن اطمئنوا لتفوقهم الحربي والتقني علينا شرعوا في اتهامنا بالدكتاتورية وفرضوا علينا الديمقراطية الغربية.

  ومن يدرس الإسلام والقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة دراسة علمية موضوعية بحثية محايدة يجد أن للحوار مساحة واسعة في دين الله، وللحوار العقلي والعملي السيادة والريادة في هذا الحوار حتى وقت الحروب نخير العدو بين تفهم الإسلام ودراسته والدخول فيه عن بينة وعلم، أو دفع الجزية مقابل الدفاع عنهم وحمايتهم أو القتال وقد ترتب على هذا الحوار المتميز بين ربعي بن عامر ورستم قائد الفرس:

  قال رستم لربعي: ما جاءكم؟

  قال ربعي: الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة الله إلى عبادة الله ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه لخلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا ذلك منه، ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله، قال: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي.

  فقال رستم: قد سمعت مقالتكم فهل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟

  قال: نعم كم أحب إليك؟ أيوما أو يومين؟

  قال: بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا.

  وأراد مقاربته ومدافعته، فقال: عن مما سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمل به أئمتنا ألا نمكن الأعداء من آذاننا ولا نؤجلهم اللقاء أكثر من ثلاث، فنحن مترددون عنكم ثلاثا فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل اختر الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزاء (أي الجزية) فتقبل ونكف عنك، أو المنابذة (أي المقاتلة) في اليوم الرابع، ولسنا نبدؤك فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأنا.

  قال: أسيدهم أنت؟ قال: لا ولكن المسلمين كالجسد بعضهم من بعض يجير أدناهم على أعلاهم (انظر التاريخ الإسلامي للدكتور عبد العزيز الحميدي جزء 10 ص 413-414).

  هذا حوار رائع في هذا الموقف العصيب دليل على أهمية الحوار مع الأعداء.

  وقد حاور الله سبحانه وتعالى الملائكة فقال: ( قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ{32} قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ{33} قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ{34} وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ{35} قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ{36} قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ{37} إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ{38} قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ{39} إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ{40} قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ{41} إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ{42}) (الحجر 32/42).

  وحاورت المرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجادلته جدالا شديدا عندما ظاهرها زوجها والرسول يقول لها ما أراك إلا طلقت منه وهي تقول وكيف تقبل هذا يا رسول الله وعندي أطفال صغار أن ضممتهم إلى جاعوا (لفقرهم)، وإن ضممتهم إليه ضاعوا (لغياب الأم الراعية)؟ وظل الحوار والمراجعة والرسول صلى الله عليه وسلم يخبرها أنها طلقت منه فينزل الوحي بعد الجدال الطويل ليؤيد رأي المرأة وسجلت هذه الواقعة في سورة المجادلة قال تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ{1}) (المجادلة/1).

  وسيدنا نوح ظل يحاور قومه ويجادلهم ألف سنة إلا خمسين عاما قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ{25} أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ{26} فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ{27} قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ{28} وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَـكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ{29} وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ{30} وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْراً اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ{31} قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ{32} قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ{33} وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ{34}) (هود/25-34).

  ويظهر الأدب في الطريقة التي سلكها نوح عليه السلام في طرحه للموضوع (والحوار) من خلال: (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ)، ثم دخل في صلب الموضوع (أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ) ثم جاء بالنتيجة (إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ)، ولا يخفى ما في إظهار خوفه عليهم من الأدب معهم، كما قال الدكتور عودة عبد الله في أدب الكلام ص 308 وقال: ثم بدأ نوح يحاورهم بشكل تفصيلي ويرد على شبهاتهم وتساؤلاتهم، والمتتبع لهذا الحوار يجد أن أدب نوح معهم كان بارزا من خلال عدة أمور أهمها: الحرص على تحقيق الألفة مع قومه، والابتعاد عن النفور والإساءات الشخصية وكان يناديهم في ألفة بقوله (يا قوم)، واللجوء إلى استثارة عقولهم بصيغة الاستفهام (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ) وأرأيتم معناها أخبروني، والاستفهام للاستنكار فعلى الرغم مما وجهوه إليه من كلام في محاوراته لهم، فإنه يأخذهم بغاية الرفق واللين وكأنه يقول لهم: افترضوا أن رسالتي التي أكرمني الله بها (وأرسلني بها) كانت بينة ظاهرة، ولكنها خفيت عليكم فلم تدركوها فهل نكرهكم عليها إكراها؟ فالمعنى يمثل أعمق الاطمئنان النفسي لهم، حيث يؤكد لهم حرية الاختيار في الدين كما قال تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة/256) مع استخدامه للاستدلال الواقعي وانه لم يطالبهم بمقابل على ما يبذلوه (وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ) ثم أجاب عن تساؤلات قومه وكذلك العقلاء تقوم محاوراتهم على المنطق السليم والأدب الرفيع والدليل الساطع والبرهان الواضح أما محاورة السفهاء (الجهلاء) فتقوم على الغرور وسوء الظن والتهديد والوعيد لمن يخالف باطلهم (كما قال الدكتور عودة عبدالله في أدب الكلام ـ دار النفائس ـ الأردن 315).

  وقد حاور سيدنا سليمان الهدهد، وحاور شعيب قومه في حوارات عظيمة وجادة وهي مفخرة من مفاخر الحوار في القرآن الكريم، وحاور سيدنا سليمان الهدهد والعفاريت، والعلماء، وملكة سبأ وهذا درس للمسلمين في الحوار وأدب الحوار، وبيان لغير المسلمين ومن يدعون غياب الحرية في الدعوة الإسلامية.

  المصادر:
أدب الكلام وأثره في بناء العلاقات الإنسانية في ضوء القرآن الكريم والسنة، عودة عبد الله، دار النفائس، الأردن 2005.
التاريخ الإسلامي مواقف وعبر، عبد العزيز الحميدي، دار الدعوة، الإسكندرية ت مصر (ج10) 1998.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد (11305) – الجمعة 9 ربيع الأول 1430هـ – 6 مارس 2009م.