ما أهون الانتصارات خلف الميكروفونات وصنع الزعامات بالخطب الرنانة والكلمات الحماسية والأغاني الشعبية، وما أسرع انهيار هذه الكيانات وعدم صمودها أمام اختبارات الصدق والثبات والأزمات والملمات.

– تجسد قصة طالوت وجالوت كيفية اختبار صدق وثبات رافعي الشعارات والنجاح وقت الأزمات، قال تعالى: «أَلَم تَرَ إلى الْمَلإ مِن بَنِي إسرائيل مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَث لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ  قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاّ تُقَاتِلُوا  قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا  فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ.  وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا  قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ  قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ  وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ  وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ  إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ  فَشَرِبُوا مِنْهُ إلاّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ  فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ  قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ.  وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ.  وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ» البقرة: 246-251.

– في هذه القصة نلاحظ ما يلي:

– طالوت: رجل اصطفاه الله ليكون ملكًا لبني إسرائيل وقائدهم العسكري, رزقه الله تعالى بسطة في العلم والجسم وهو قائد جيش المؤمنين من بني إسرائيل.

– جالوت: رجل قوي، لديه جيش يوقع الرعب في القلوب، يحتاج إلى طاقة وشجاعة لمواجهته، من هنا كان حرص البيان القرآني على ترداد اسمه غير مرة على التوالي، وعلى أن يقرن اسمه بـ(جنوده) مرتين (معجم الأعلام، قاموس القرآن الكريم (مرجع سابق) (ج1) (ص183. 283).

– في المشهد الأول من القصة: يدور حوار بين بني إسرائيل ونبيهم، يكشف عن تشكك النبي بصدق نواياهم (في القتال)، وبين ما فيهم من جبن وظلم لأنفسهم، وقد صدق حدسه، فقد رفضوا الملك الذي اختاره الله لهم، وكان رفضهم لسببين: أنه ليس من بيت المُلك، وأنه ليس غنيًا، وكلا الأمرين لا علاقة له بالمهمة التي اختاره الله لها، بل إنهم وهم الذين طلبوا من نبيهم أن يولي الله عليهم ملكًا ليقاتلوا تحت لوائه – قد ارتدوا عما سألوه وجبنوا عن أن يقاتلوا أصلاً، كما توقع نبيهم.

– وفي المشهد الثاني: يدور حوار بينهم وبين الملك طالوت وهم في طريقهم إلى المعركة، يشير إلى أنه ما زال في قلوبهم ذلك الجبن والظلم الذي سبق، قال لهم الملك أن الله مبتليكم بنهر سنمر منه، فلا تشربوا منه إلا أن يغرف أحدكم غرفة بيده، وكان ذلك اختبارًا لهم على الطاعة والانقياد لأوامر القائد، ففشل معظمهم في اختبار الثبات وصدق النوايا، فشربوا منه إلا قليلاً منهم.

– ثم جاء الاختبار الثالث عند المواجهة، فقد أصابهم الرعب عندما رأوا كثرة أعدائهم وقوتهم، وكادوا ينكصون عن القتال لولا أن فئة صادقة ثابتة على الإيمان شجعتهم.

– القائد هو طالوت، منَّ الله عليه بالمُلك وبسطة في الجسم والعلم.

– يلتقي الجمعان ويقتل داوود أحد جنود طالوت جالوت وتنتهي المعركة.

– في القصة العديد من العظات والدروس والعبر.

– متى عظم الشعور بوجوب حفظ حقوق الأمة ومحاربة أعدائها قاد الخواص العوام إلى هذا الشعور.

– من شأن الأمم الاختلاف في اختيار الرئيس والاختلاف المرضي المغرض يؤدي إلى التنازع والفشل وضياع القوة والدولة وهلاك الحرث والنسل في غالب الأحايين.

– الأمم الجاهلة ترى أن رجال الدين وأصحاب العمائم والثروة والجاه أحق بالحكم بغض النظر عن الخبرة والتدريب والصلاحية للحكم وتعلم كيف تساس الأمور. للحكم رجاله وللدولة رجال وعلينا أن نختار الحاكم المسلم على إدارة شؤون الدولة بأمان ولا نكون معول هدم.

– طاعة الجنود للقائد وكل ما أمر به ما لم يكن معصية لله ورسوله, من عوامل الوحدة والقوة والنصر.

– المعاصي من أهم أسباب الهزيمة أمام العدو، قال تعالى: ‭{‬إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ.  إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ‭}‬ آل عمران: 155.

– الإيمان بالله والتصديق بلقائه من أعظم أسباب الثبات والنصر في مواقف اللقاء.

على القيادة الناجحة أن تكون:

– خبيرة بالنفوس.

– عدم الاغترار بالحماسة الظاهرة.

– عقد اختبارات الصدق والثبات والطاعة والعزيمة في نفوس الجنود وقت التدريب وقبل دخول المعارك.

– كما أن الحماسة الجماعية قد تخدع القادة لو أخذوا بمظهرها فيجب أن يضعوها على محك الاختبار.

– إن اختبار الحماسة الظاهرة والاندفاع الغائر في نفوس الجنود ينبغي ألا يقف عند الاختبار الأول وأن تتكرر الاختبارات.

– إن شعارات الثورات الجماهرية قد تؤدي إلى الفتنة وضياع الوحدة والأمن والأمان.

– النضال بالميكروفونات والخطب الجماهيرية الحماسية والأغاني كلها شواهد قد تكون خداعة لذلك علينا عدم التنازع وعدم الوصول إلى الفشل كما قال تعالى: ‭{‬وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ  وَاصْبِرُوا  إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ‭}‬ الأنفال: 46.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٥٤٦٣ – الجمعة ٢٤ يوليو ٢٠٢٠ م، الموافق ٠٣ ذو الحجة ١٤٤١هـ