يمثل أصحاب الأخدود الجاهلية المقاومة لكل خروج عن تقاليدها وعاداتها ومعتقداتها، وتصل بهم الجاهلية إلى تدمير وحرق وقتل كل خارج عن نظامهم، قال تعالى: «قُتِلَ أصحاب الأخْدُودِ» البروج: 4، وهذا دعاء عليهم بالهلاك

والأخدود الحفر التي تحفر في الأرض، وكان أصحاب الأخدود هؤلاء قومًا كافرين، ولديهم قوم مؤمنون، فراودوهم على الدخول في دينهم، فامتنع المؤمنون عن ذلك فشق الكافرون أخدودًا في الأرض، وأوقدوا فيها النار، وقعدوا حولها، وعرضوا المؤمنين على النار، فمن يستجيب لهم أطلقوه، ومن استمر على الإيمان قذفوه في النار، وهذه غاية المحاربة لله وللمؤمنين به سبحانه، ولهذا لعنهم الله وأهلكهم وتوعدهم فقال: «قُتِلَ أصحاب الأخْدُودِ»، ثم فسر الأخدود بقوله: «النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ* إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ* وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ» البروج. وهذا من أعظم ما يكون التجبر وقساوة القلب لأنه جمع بين الكفر بآيات الله ومعاندتها ومحاربة أهلها وتعذيبهم بهذا العذاب التي تنفطر منه القلوب وحضورهم إياهم عند إلقائهم فيها، والحال أنهم ما نقموا من المؤمنين إلا حالة يُمدحون عليها وبها سعادتهم وهي أنهم كانوا يؤمنون «بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ»، أي له العزة التي قهر بها كل شيء، وهو حميد في أقواله وأفعاله وصفاته «الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ» خلقًا وأمرًا يتصرف فيهم بما يشاء «وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» علمًا وسمعًا وبصرًا، أفلا خاف هؤلاء المتمردون عليه أن يأخذهم العزيز المقتدر؟ أوَما علموا كلُّهم أنهم مماليك لله، ليس لأحد على أحد سلطة من دون المالك؟! أوَخَفيَ عليهم أن الله محيط بأعمالهم مجازيهم عليها؟! كلا إن الكافر في غرور، والجاهل في عمى وضلال عن سواء السبيل.

 – ثم أوعدهم ووعدهم وعرض عليهم التوبة فقال: «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ» أي العذاب الشديد المحرق، قال الحسن البصري رحمه الله: انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه وأهل طاعته وهو يدعوهم إلى التوبة.

 – وبعد أن ذكر عقوبة الظالمين قال: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا» بقلوبهم «وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ» بجوارحهم «لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ» البروج: 11، الذين حصل لهم الفوز برضا الله ودار كرامته، ثم قال «إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ».

– أي إن عقوبته لأهل الجرائم والذنوب العظام لقوية شديدة، وهو للظالمين بالمرصاد قال تعالى: «وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» هود: 102 (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبدالرحمن بن السعدي، دار ابن الجوزي، الرياض: المملكة العربية السعودية(ط2)( ص1084)(1426هـ).

 – وهكذا انتصر أصحاب الأخدود وهزموا المؤمنين، ولكن القرآن يعلمنا أن أصحاب الأخدود هم الذين انهزموا بنصرهم على المؤمنين وإحراقهم.

– هذا درس لمن يظنون أن للنصر صورة واحدة وهي القضاء على العدو، الهزيمة أمام العدو في أحايين كثيرة تكون هي النصر والفوز العظيم على العدو.

– القرآن الكريم ذكر (أوصاف تجمع أصحاب الأخدود) وأحوالهم، ولم يذكرهم بأسمائهم وأنسابهم لأنه ليس هناك كبير فائدة تتعلق بهذه الأسماء.

– القصة تبين أن من يفتن المؤمنين والمؤمنات من عباد الله في كل بلد، وفي كل عصر ستكون عاقبته كعاقبة أصحاب الأخدود الذين قهروا وقتلوا (وحرقوا) المؤمنين والمؤمنات في عصرهم، لا لشيء إلا لأنهم يقولون ربنا الله، (وينشدون تطبيق منهاج الله في الحياة) فأهلكهم الله مع الهالكين قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ» البروج:10، قال تعالى «إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ* أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ» آل عمران21/22.

– وإن على المؤمنين والمؤمنات (أن يعلموا سنة الله في خلقه) ولا سيما الذين يبلغون كلمة الله لعباده أن يتحلوا بالصبر والثبات والتحمل فيما قضاه الله لهم من الشدة والمحنة لئلا يكونوا فتنة للكافرين، وأسوتهم في ذلك ثبات المؤمنين والمؤمنات من أصحاب الأخدود، ثواب الله في الدنيا والآخرة قال تعالى معقبًا على خبر أصحاب الأخدود «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ» البروج: 11.

– ومن دعاء المؤمنين: «رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» الممتحنة: 5. (معجم الاعلام قاموس القرآن الكريم، فيصل عبدالله الحفيان، مؤسسة الكويت للتقدم العلمي: الكويت (ط1) (ص103)، (2009م).

– وقد فسر الشيخ عبدالرحمن السعدي الآية «رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا» أي لا تسلطهم علينا بذنوبنا، فيفتنونا، ويمنعونا مما يقدرون عليه في أمور الإيمان ويفتنون بأنفسهم، فإنهم إذا رأوا لهم الغلبة، ظنوا أنهم على الحق، وإنا على الباطل، فازدادوا كفرًا وطغيانًا «وَاغْفِرْ لَنَا» ما اقترفنا من الذنوب والسيئات وما قصَّرنا به من المأمورات «رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ» القاهر لكل شيء «الْحَكِيمُ» الذي يضع الأشياء مواضعها فبعزتك وكلمتك انصرنا على أعدائنا واغفر لنا ذنوبنا واصلح عيوبنا (تيسير الكريم الرحمن (مرجع سابق) صفحة 1117.

– نحن الآن أمام تجمعين من تجمعات القرآن الكريم، تجمع أهل الطغيان أصحاب الأخدود بقوتهم وسلطانهم ومقدرتهم على المؤمنين، وتجمع أهل الإيمان المقتولين بضعفهم وقلة حيلتهم وعدم مقدرتهم على الكافرين.

– التجمع الأول جمع سلطانَهُ وحرَق التجمع الثاني، فرح المنتصرون وظنوا أنهم بهذا قد انتصروا ولكن في الحقيقة كما أخبرنا الله فإن المقتولين هم الذين انتصروا بثباتهم على الحق وإيمانهم وعدم إطاعة الظالمين، الفريق الأول انتصروا مؤقتًا وظاهريًا في الدنيا والفريق الثاني انهزم وفارق الحياة ولكنهم فازوا في الحياه الباقية الفوز الكبير بدخول الجنة ورضا رب العالمين، وفي هذا درس بليغ للطغاة الذين قال لهم المؤمنون من سحرة فرعون «قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى* إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فإن لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى* وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى* جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّى» طه:72-76.

– إنها القضية الكبرى في الحياة تجسدها قصة أصحاب الأخدود وتجمعهم على الباطل، وكذلك التجمع الطاغوتي تجاه موسى ومن معه وفي الطرف الثاني المؤمنون الثابتون على الحق من المحروقين أو المصلبين المقتلين من سحرة فرعون المؤمنين.

– على كل منا أن يتعلم ويتعظ ويفكر ويختار إما النصر بهزيمة المؤمنين وإيذائهم ثم الفوز بالنار والعذاب الأليم.

– وإما الثبات والموت على الحق والفوز بالجنة والنعيم المقيم!!

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٥٣٧٢ – الجمعة ٢٤ أبريل ٢٠٢٠ م، الموافق ٠١ رمضان ١٤٤١هـ