النجاحُ الأكبر للإنسان يتوقف على العبادة الخالصة لله تعالى وفقَ منهاج الله تعالى والاستعانة به وحده لأنه سبحانه له الخلقُ وله الأمر كما قال تعالى: (ألَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف 54) لذلك كان الإقرار الذي يقرُّ به المسلمُ في كل ركعة( إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ( (الفاتحة 5).

قال ابن القيم رحمه الله في التفسير القيم:

إياك نعبد مبني على الألوهية، وإياك نستعين مبني على الربوبية، وقال الشيخ عبدالرحمن بن السعدي رحمه الله في قوله تعالى: (إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، أي نخصك وحدك في العبادة والاستعانة، والعبادة: اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة.

والاستعانة: هي الاعتماد على الله تعالى في جلب المنافع، ودفع المضار، مع الثقة في تحصيل ذلك.

والقيام بعبادة الله «وحده» والاستعانة به وحده هما الوسيلة للنجاح، والسعادة الأبدية، والنجاة من جميع الشرور، فلا سبيل للنجاة إلا بالقيام بها، وإنما تكون العبادة عبادة إذا كانت مأخوذة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مقصود بها وجه الله «وحده» فبهذين الأمرين تكون العبادة الصحيحة والمقبولة.

وذكر «الاستعانة» بعد العبادة مع دخولها فيها لاحتياج العبد في جميع عبادته إلى الاستعانة بالله تعالى.

وقال ابن القيِّم في التفسير القيِّم أيضًا:

وسر الخلق والأمر والكتب والشرائع انتهى إلى هاتين الكلمتين، وعليهما مدار العبودية والتوحيد حتى قيل: أنزل الله تعالى مائةَ كتابٍ وأربعة كتب، جميع معانيها في التوراة والإنجيل والقرآن، وجميع معاني الكتب الثلاثة في القرآن، وجميع معاني القرآن في المفصل، وجميع معاني المفصل في الفاتحة ومعاني الفاتحة في( إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(.

والعبادة تجمع أصلين: غاية الحب بغاية الذل والخضوع، والتعبد: هو التذلل والخضوع، فمن أحببته ولم تكن خاضعًا له، لم تكن عابدًا له، ومن خضعت له بلا محبة، لم تكن عابدًا له، حتى تكون محبًا خاضعًا. ومن هنا كان المنكرون محبة العباد لربهم منكرين حقيقة العبودية.

والاستعانة: تجمع أصلين: الثقة بالله، والاعتماد عليه، فإن العبد قد يثق في الواحد من الناس، ولا يعتمد عليه في أموره، مع ثقته به، لاستغنائه عنه، وقد يعتمد عليه مع «عدم» ثقته بحاجته إليه، ولعدم من يقوم مقامه، فيحتاج إلى الاعتماد عليه مع أنه غير واثق به.

والتوكل معنى يلتئم من أصلين، من الثقة والاعتماد وهو حقيقة (إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وهذان أصلان – وهما التوكل والعبادة – وجمع القرآن بين العبادة والاستعانة في ستة مواضع في القرآن الكريم كلها مجموعة في (إياك نعبد وإياك نستعين).

( إياك نعبد) متعلق بألوهية الله واسمه الله، (إياك نستعين) كما تقدم اسم الله على اسم الرب في (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ( (الفاتحة 2).

وإياك نعبد قسم الله تعالى في الآية، وإياك نستعين قسم العبد فيها.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: تأملت أرفع الدعاء، فإذا هو سؤال العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في (إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(.

ولا يكون العبد محققًا لإياك نعبد إلا بأصلين عظيمين، أحدهما: متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، والثاني: الإخلاص في العبادة، فبهذا تحقيق إياك نعبد.

وتشمل (إياك نعبد) على شفاء القلوب فإن مدار اعتلال القلوب وإسقامها على أصلين: فساد العلم، وفساد القصد، ويترتب عليهما الضلال المتوقف على فساد العلم، والغضب المترتب على فساد القصد.

وهذان المرضان هما ملاك أمراض القلوب، والتحقق بإياك نعبد، وإياك نستعين علمًا ومعرفة وعملا وحالا يتضمن الشفاء من مرض فساد القلب والقصد.

 (وإياك نعبد وإياك نستعين) دواء مركب من ستة أجزاء: عبودية الله لا غيره، وبأمره وشرعه نعبد لا بالهوى، ولا بآراء الرجال وأوضاعهم وأفكارهم، والاستعانة به على عبوديته لا بنفس العبد وقوته وحوله ولا بغيره فهذه هي أجزاء ( إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(، فإن ركبها الطبيب اللطيف العالم بالمرض، واستعملها المريض حسب أوامر الطبيب حصل الشفاء، والقلب يمرض بالرياء والكبر، ودواء الرياء (إياك نعبد)، ودواء الكبر (إياك نستعين) فإذا عوفي العبد من الرياء في (إياك نعبد) ومن الكبر والعجب بـ(إياك نستعين) ومن مرض الضلال والغضب بـ(اهدنا الصراط المستقيم) عوفي من أمراضه وأسقامه.

وبني (إياك نعبد) على أربع قواعد: التحقق بما يحبه الله ورسوله ويرضاه من قول اللسان والقلب، وعمل القلب والجوارح، فالعبودية اسم جامع للمراتب السابقة.

وجميع الرسل إنما دعوا إلى ( إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(.

وللعبودية مراتب بحسب العلم والعمل، فأما مراتبها العلمية فهما العلم بالله والعلم بدينه، والعلم بالله بذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه وتنزيهه عما لا يليق به سبحانه، والعلم بدينه يتضمن العلم بـ«افعل ولا تفعل»، أي: بالحلال والحرام وعواقب كل منهما.

وهكذا أخي المسلم( إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ( دعامة من دعامات النجاح في الحياة والنجاة يوم الدين، فاجلعهما منهاج حياتك تنجح في الدنيا وتنجو في الآخرة، فاللهم اجعلني وإياك من أهل ( إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ( والحمدلله رب العالمين. (وللحديث بقية بإذن الله).

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – مع الصائمين – العدد ١٥٠٣٢ – الأربعاء ٢٢ مايو ٢٠١٩م ، الموافق ١٧ رمضان ١٤٤٠ هـ