الناس صنفان، صنف مستقيم على الدنيا وحدها ووضع كل حساباته فيها ولم يدخر شيئاً للحياة الباقية الدائمة، وصنف مستقيم على الدنيا يعمرها بنواميس الله في الخلق وفق القاعدة القرآنية «ولَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ» (القصص 77)، وهو أيضًا مستقيم على أمر الآخرة يدخر فيها للحياة الباقية وفق القاعدة «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ» (القصص 27)، فجمع بين الحسنيين، يَتمتع بنعم الله في الدنيا ويدخر لنفسه للحياة الحقيقية الدائمة.

الصنف الأول في يوم القيامة،«يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي» (الفجر 24)، إنه يوم الندم الأكبر في يوم لا ينفع فيه الندم، والصنف الثاني بعد دخول الجنة: «وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّه» (الأعراف 43)، لقد نجى الله هذا الصنف لاستقامتهم على منهاج الله، وقال أبو منصور الثعالبي في الإيجاز والإعجاز في قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا» (الأحقاف 13) استقاموا كلمة واحدة تفصح عن الطاعات كلها في الأثمار (الامتثال والطاعة).

والانزجار، وذلك لو إنساناً أطاع الله سبحانه وتعالى مائة سنة، ثم سرق حبة واحدة لخرج يسترقها عن حد الاستقامة إنتهى.

وقال الشيخ حسنين مخلوق، استقاموا: على الحق اعتقاداً وعملاً وإخلاصاً.

وقد أمر الله تعالى في كتابه الكريم بالاستقامة فقال تعالى: « فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (فصلت 112)، وقال تعالى: «فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُم وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ» (الشورى 15).

قال الشيخ عبد الرحمن بن السعدي رحمه الله في قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا» (الأحقاف 13)، أي اعترفوا ونطقوا ورضوا بربوبية الله تعالى واستسلموا لأمرة، ثم استقاموا على الصراط المستقيم علمًا وعملاً فلهم البشرى في الحياة الدنيا والآخرة (تيسير الكريم الرحمن).

قال ابن كثير رحمه الله في قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا» أي أخلصوا العمل لله، وعملوا بطاعة الله تعالى على ما شرع الله لهم… ثم قال: هم الذين لم يشركوا بالله شيئاً.

وسئل ابن عباس رضي الله عنهما: أي آية في كتاب الله أرخص: قال: قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا» (الأحقاف 13) ، على شهادة لا إله إلا الله، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس «إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا» على أداء فرائضه، كذا قال قتادة، قال وكان الحسن يقول: اللهم أنت ربنا، فارزقنا الاستقامة، وقال أبو العالية (ثم استقاموا) أخلصوا لله العمل والدين (أي يكون عملهم خالصاً صوابًا).

وروى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك، قال: (قل آمنت بالله ثم استقم).

وقال ابن السعدي رحمه الله في كتابه (بهجة قلوب الأبرار)، في شرح الحديث: فهذا الرجل طلب من النبي صلى الله عليه وسلم كلاماً جامعًا للخير نافعًا موصلاً صاحبه إلى الفلاح (والنجاة)، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان بالله الذي يشمل ما يحب اعتقاده من عقائد الإيمان وأصوله، وما يتبع ذلك، والاستقامة عليه إلى الممات وهو نظير قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ» (فصلت 30).

فرتب على الإيمان والاستقامة، السلامة من جميع الشرور وحصول الجنة وجميع المحاب، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة الكثيرة على أن الإيمان يشمل ما في القلوب من العقائد الصحيحة، وأعمال القلوب من الرغبة في الخير، والرهبة من الشر، وإرادة الخير، وكراهة الشر، ومن أعمال الجوارح، ولا يتم ذلك إلا بالثبات عليه والاستقامة.

قال الدكتور محمد لقمان الأعظمي الندوي في كتابه دراسات في الحديث النبوي:

ولعل الدعوة إلى الاستقامة تشير إلى منحيات الدعوة الإسلامية ومعوقاتها وما يعترض في سبيل ذلك من المحن والابتلاء، وترشد إلى الطريق التي تحقق للدعاة اهدافهم العالية، وتؤهلهم لحمل هذه الرسالة، وتجعل منهم الأمة الوسط التي اختارها الله تعالى لتكون شهيدة على الناس، وهادية إلى سواء السبيل، وداعية إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: «إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ، نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ » (فصلت 30-32).

ولقد كان صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في الاستقامة في قوله وعمله وحياته كلها، وكان يأمر بها ويحث عليها واعتبرها – إذا تركزت على الإيمان – ملاك دعوة الإسلام ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم للسائل: قل: (آمنت بالله ثم استقيم) رواه مسلم.

وهكذا أخي المسلم إن أردت النجاح في الدنيا والنجاة في الآخرة أن تستقيم في عقيدتك وقولك وسلوكك وظنك بالله وبعبادة الصالحين كما قال تعالى لك: (واستقم كما امرت).

هذه من دعائم النجاح والنجاة في الدنيا والآخرة فالزم ولا تفرط في ذلك.

(وللحديث بقية بإذن الله).

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – مع الصائمين – العدد ١٥٠٢٩ – الأحد ١٩ مايو ٢٠١٩م ، الموافق ١٤ رمضان ١٤٤٠ هـ