الصدق أساس الأخلاق الإسلامية كلها، ولذلك أولى القرآن الكريم الصدق اهتمامًا خاصًا به، ويظهر ذلك من كثرة الآيات القرآنية التي تناولت الصدق بمختلف الأساليب، فقد ذكر الله تعالى الصدق وما يتعلق به في أكثر من مائة وعشرين موضعًا في القرآن الكريم كما يبين المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.

كما اهتمت السنة النبوية الصحيحة وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم والتربية الإسلامية بخلق الصدق اهتمامًا بالغًا، ولقب المصطفى صلى الله عليه وسلم بالصادق الأمين لصدقه وأمانته في الجاهلية والإسلام، وأمرنا الله تعالى أن نكون مع الصادقين فقال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة 119)، قال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: (مع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه) (الصدق في القرآن الكريم، مذكر محمد عارف (ص6)).

وقال الراغب الأصفهاني رحمه الله في مفردات ألفاظ القرآن (الصدق والكذب أصلهما في القول ماضيا كان أو مستقبلاً، وعدا كان أو غيره ولا يكونان بالقصد إلا في القول، ولا يكونان في القول إلا في الخير من دون غيره من أصناف الكلام، ولذلك قال الله تعالى: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً) (النساء 122)، (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَديثا) (النساء 87)، (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَاب اسماعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ) (مريم 54)، وقد يكون في العرض في غيره من أنواع الكلام، كالاستفهام والأمر والدعاء. ثم قال: والصدق مطابقة القول الضمير والمخبر عنه معًا، ومتى فقد شرط من ذلك لم يكن صدقًا، بل إما أنه لا يوصف بالصدق، وإما أنه يوصف تارة بالصدق وتارة بالكذب.

وقال (والصديق): من كثر منه الصدق، وقيل بل يقال لمن صدق بقوله أو اعتقاده وحقق صدقه فعله، وقال: وقد يستعمل الصدق والكذب في كل ما يحقق ويحصل في الاعتقاد نحو: صدق ظني وكذب ولا يستعملان في أفعال الجوارح) انتهى، وقد أمر الله سبحانه وتعالى المسلمين بالصدق في القول، فقال سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) (الأحزاب 70-71).

وبذلك جعل سبحانه الصدق طريق إصلاح العمل ومغفرة الذنوب للمؤمنين.

وأمرهم بالصدق في القول والقصد وغيره فقال سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقين) (التوبة 119).

وكذب الله تعالى المنافقين على شهادتهم المخالفة لاعتقادهم فقال سبحانه: (إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) (المنافقون 1).

ورغب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في الصدق وحببه إليهم، وحذرهم من الكذب وبغضه إليهم، فعن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وما زال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار وما زال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا) رواه البخاري ومسلم.

وفي هذا الهدي النبوي يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين أن الصدق فضيلة الفضائل وأس الأخلاق، ودعامة من دعامات النجاح والنجاة، وإنه يعلي صاحبه عند الله وعند الناس جميعًا فيجعله موضع ثقتهم، مرغوب الحديث عندهم، محبوبًا إليهم، محترم الكلمة عند حكامهم، مقبول الشهادة عند قضاتهم، مقضي الحاجة عند تجارهم وغيرهم.

كما أن الكذب أس الرذائل، به يتصدع بنيان المجتمع، ويختل سير الأمور ويسقط صاحبه من العيون، لا يصدقونه في قول، ولا يثقون به في عمل، ولا يحبون له مجلسًا، أحاديثه منبوذة، وشهادته مردودة، لذلك نهى الله تعالى عنه في آيات كثيرة وحذر الرسول صلى الله عليه وسلم بالقول والتربية وربى المسلمين على ذلك (الأدب النبوي، محمد عبدالعزيز الخولي(ص187) بتصرف).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) أخرجه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري.

وعن عبدين بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر) أخرجه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري، وفي هذا الحديث بيان لصفات المنافقين القولية والفعلية والتحذير من كل (الصدق في القرآن الكريم، مذكر محمد عارف (ص98).

وعندما يتحرى المسلم الصدق في نيته وأقواله وأفعاله وتربيته لنفسه ولمن يرعاهم ويحببهم فيه، ويبغض الكذب في النية والقول والفعل والتربية يصبح أنموذجًا يحتذى مع زوجه وأبنائه وأرحامه وجيرانه وفي العمل والإنتاج والتنفيذ، وبذلك يرى الناس فيه انعكاسًا واضحًا للصدق في كتاب الله عز وجل وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فيقتدون به ويتعلمون منه ويحترمونه ويألفونه ويثقون فيه ويرى غير المسلمين فيه صورة صادقة لدينه وخلقه الإسلامي.

وعندما تعلم الصحابة رضوان الله عليهم الصدق من الحبيب صلى الله عليه وسلم وطبقوه في حياتهم وفي البلدان التي فتحوها، والبلاد التي تاجروا فيها كانوا بفضل الله ثم بفضل صدقهم في النية والقول والفعل سببًا في إسلام أكبر البلدان في شرق آسيا وفي إفريقيا وغيرها. وعندما صدقوا في تعمير الكون بنواميس الله في الخلق شيدوا حضارة علمية تقنية خلقية ما زال يتيه بها التاريخ الإنساني وقد حثنا الله تعالى أن نقتدي بهم في الصدق فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقين) (التوبة 119)، فالصدق من أهم ركائز النجاح والنجاة في الدنيا والآخرة. (وللحديث بقية بإذن الله).

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – مع الصائمين – العدد ١٥٠٢٧ – الجمعة ١٧ مايو ٢٠١٩م ، الموافق ١٢ رمضان ١٤٤٠ هـ