ما أحوجنا في هذه الأيام إلى تعلُّم التبين والتثبت قبل أن ننشر كل ما يصل إلينا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فالبعض بمجرد فتح الرسالة وقراءتها قراءة سريعة، ويقرأ في نهاية الرسالة انشر تؤجر، يسارع إلى النشر من دون تبين وتثبت من صحة الرسالة، والتي قد تمس عرض إنسان أو سمعة امرأة مسلمة محصنة عفيفة شريفة غافلة عما يدور حولها على شبكات التواصل الاجتماعي.

لقد علمنا الإسلام التبين والتثبت من صحة الأخبار قبل نشرها والمشاركة في الإثم والعدوان على خلق الله، وكم من أسر تحطمت لرسالة كاذبة، وكم من أخت مسلمة عفيفة طُلِّقت بسبب رسالة كاذبة حقيرة، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ» (الحجرات- 6).

التبين مرتبة من مراتب وصول العلم ويراد بها ما يحصل من العلم بعد الالتباس يقول الكفوي: اعلم أن مراتب وصول العلم إلى النفس هي: الشعور ثم الإدراك ثم الحفظ ثم التذكر ثم الذكر ثم الرأي وهو استحضار المقدمات وإحالة الخاطر فيهما ثم التبين، وهو علم يحدث بعد الالتباس ثم الاستبصار وهو العلم بعد التأمل «الكليات للكفوي نقلاً عن المرجع السابق» (ص901).

ونحن الآن نتخطى كل هذه العمليات من الشعور ووصول الخبر مباشرة إلى الإرسال للآخرين، وقد يكون الخبر مضرًا بالمرسل ودينه ووطنه وأمته وهو لا يدري، من هنا يستغل المرجفون جهلنا وتسرعنا ويرسلون إلينا الأخبار ثم يتبعونها بقوله: انشر تؤجر، وهذا يرجع إلى التربية التي تربينا عليها من العجلة وعدم التدقيق واستخدام العقل والتفكير ثم الإرسال لتعلمنا ذلك في المدرسة فالمعلم يطرح السؤال والمجتهد من يرفع يده أولاً طالبًا الإجابة من دون روية أو تفكير، والمعلم يعزز هذا السلوك الخاطئ ويطلب من الجميع تشجيع من أجاب أولاً، من هنا يقوم الآباء والمعلمون في الدروس الخصوصية بتلقين الابن الإجابة في البيت حتى إذا سأل المعلم نفس السؤال رفع الولد يده طالبا الإجابة قبل إتمام المعلم السؤال، كل ذلك طمعًا في درجات المشاركة وأعمال السنة، وبذلك تحول العلم والتعليم عندنا إلى الحفظ والصم والاستظهار والاسترجاع، وغاب استخدام القدرات العقلية العليا من الفهم والتحليل والتركيب والاستنتاج، لذلك يفشل معظم الطلاب في الإجابة على الأسئلة غير المكرورة وغير سابقة التجهيز والتي لم يتدرب المتعلم عليها في البيت وفي الدروس الخصوصية، وبذلك يفقد المتعلم الدافعية والتفكير ويصبح عنصرًا من عناصر اللهو والمشاغبة في الحصص وتصبح العملية التعليمية كئيبة ومملة، ويكره المتعلم القراءة والكتب المدرسية، لذلك نرى معظم الطلاب عقب الانتهاء من الاختبارات النهائية يمزقون الكتب المدرسية أمام باب المدرسة في هستيريا جماعية خطرة، وبذلك قبر الإبداع والتفكير والحوار والنقاش في الصندوق الأسود (الصف) في التربية والتعليم.

قال تعالى: «لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ» (البقرة (256).

فالتدين القائم على تبين الرشد من الغي هو التدين الصحيح العقلي غير الموروث المواجه للإرجاف والإلحاد بعلمية وعقل وأدلة صحيحة ورسوخ في النفس.

وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا» النساء (94). حتى نعلم الصادق في إيمانه من الكاذب والمخادع من الصريح والإيمان الصحيح وقد استغل أعداء الله عدم التبين في زرع العملاء في صفوفنا بعد النطق بالشهادتين.

قال تعالى: «عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ» التوبة (43)، وقال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» فصلت (53)، إنه الإيمان القائم على الشواهد العلمية الدالة على أن القرآن الكريم هو الحق والإسلام دين التبين على علم ودراسة وبحث.

وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ» (الحجرات -6).

وكأن هذه الآية موجهة إلى مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة ودعوة الله تعالى لهم إلى التبين قبل النشر والتأكد من صحة المعلومة ثم إرسالها حتى لا نصيب الناس في دينهم وعلمهم وأعرافهم بجهلنا، ومن يفعل ذلك سيندم على سلوكه المتسرع في الدنيا وفي الآخرة بالعذاب الأليم.

إنها التربية الإسلامية في التبين والتدقيق في الأخبار والشائعات قبل المشاركة بنشرها من دون تبين.

ومن فوائد التبين كما ورد في موسوعة نضر النعيم (مرجع سابق) (ص908).

حفظ الأرواح وصيانة الدماء (والأعراض).

 دليل رجاحة العقل وسلامة التفكير.

 يقي المجتمع من القرارات السريعة غير المدروسة.

 يحفظ حقوق الأفراد والجماعات ولا يجعلها عرضة للطعن.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – مع الصائمين – العدد ١٥٠٢٣ – السبت ١١ مايو ٢٠١٩م ، الموافق ٦ رمضان ١٤٤٠ هـ