كلما مررت على حاوية القمامة المجاورة لبيتنا سمعت صوتا من الحاوية يناديني قائلا: أنت متخصص في النبات فهل يرضيك ما يحدث لأحبائك في علم النبات؟ كيف ترضى لأحبائك أن يُلقوا في هذه الهاوية داخل هذه الحاوية؟

ترددت كثيرا في الرد على هذه الحبة الباكية الشاكية، بعد مدة أحسست أن ضميري يؤنبني، وعلمي يؤرقني، والله سبحانه وتعالى سيحاسبني، فقررت أن أستمع لهذه الحبة المسكينة وأنقل شكواها إلى الناس، كل الناس.

     بدأت الحبة تتكلم وتقول: أنت تعلم أني ثمرة كاملة ولست جزءا من ثمرة، استنبط العلماء سلالتي في ليال طويلة، وفي قصة من المعاناة مريرة، فحولوني ببحثهم وعلمهم وجهدهم من حبة برية صغيرة إلى حبة أرز كبيرة، حسنوا محتواي النشوي والفيتاميني خدمة لكم، وتسخيرا لنعم الله عليكم، وبذلك تحولت من نبات بري مغمور إلى نبات اقتصادي مشهور، تعرضت إلى العديد من البحوث والكثير من التحليلات والفحوص وأخيرا حصلت على شهادة أنني ممتازة وصالحة للتداول والزراعة في الحقول الواسعة والأراضي الخصبة والمياه الوفيرة.

      استقبلني الزرَّاع بالفرح الشديد، زرعوني أولا في مشتل بجوار أرضهم الواسعة، وذبوا عني الطير والآفات وباقي الحيوانات وتعهدوني بالسقي والرعاية، شاهدتهم يمهدون الحقول لزراعتي الدائمة وانتقلت إليها فرحة مسرورة، أخذ الفلاح يشتلني هو وأهله وجيرانه وأحباؤه وأولاده، زرعوني بكل عناية ووزعوني على المساحة بكل دراية، وكان شتلي صعبا عليهم، فالأرض مغمورة بالماء، والطين سميك ومجهد، تحملوا الصعاب وشتلوني، وأخذوا يراقبونني كل يوم، فرحوا فرحا شديدا عندما رأوا أفراخي، أي أشطائي، تخرج من براعم ساقي القاعدية، سعدت بفرحهم بأشطائي وبرعايتهم وتعهدهم لنا بالسقي والحماية، حموني من الأعشاب الضارة، والحيوانات الراعية، ظللت ستة أشهر تحت العناية والرعاية المركزة.

      في نهاية الموسم منعوا الري عني وجففوا الأرض من حولي تمهيدا لحصدي وضمي، نقلوني إلى الجرن، وهو المكان المتسع لديهم، حيث تم فصلي عن السيقان والأوراق بطرق متعددة يدوية وآلية، تحملت الضرب على الحجارة أثناء فصلي، وكابدت الدرس والدوس، فصلوني ثم جففوني حماية لي من الآفات الدقيقة، وضعوني في عبوات جديدة ونظيفة فرحوا بي فرحا شديدا، حملوني فوق أعناقهم إلى بيوتهم، وحموني من الطير والمهالك.

      بعد ذلك نقلوني معززة مكرمة إلى مكينة تبيض وجهي لتفصل القشر عني، تحولت من كهرمانة صفراء إلى لؤلؤة بيضاء، ثم وضعوني في أكياس جميلة وأعطوني ماركة مشهورة.

     حضر التجار، ثم حملوني وأكرموني بعد أن ودعت أهلي، نقلوني وأقراني إلى مكان أمين، وجاءت السيارات لحملي إلى الميناء وركبت في السفينة، وبعض أقاربي ركبوا الطائرة.

      وصلنا بحمد الله إلى دياركم، وجدناها خالية من الأراضي الزراعية والمياه العذبة عندكم شحيحة، والأنهار معدومة، ولا زراع حولي، حمدت الله أن خلقني لإطعامكم وسد حاجتكم وجوعكم.

اشتريتموني من التجار بأثمان غالية، حملتموني في سياراتكم العالية إلى مطاعمكم الفخمة وفنادقكم الحديثة ومنازلكم الجميلة،

      جاءني العمال والخدم والطباخون الماهرون الذين يعرفون قدري وكيف يتعاملون مع مثلي، غمروني بالمياه النقية وطبخوني وزودوني بالإضافات المفيدة، ووضعوا اللحم الشهي على رأسي، ثم جاء منكم من حملني من المطبخ إلى حفل زفاف ابنكم، وإلى موائد ضيوفكم.

      فرحت عندما رأيتكم تقبلون علي وتقبلوني وتلتهموني في شغف عجيب، حمدت الله تعالى الذي خلقني وجعلني رزقا حسنا لكم ولأضيافكم وأولادكم.

     وفجأة رفعتم أيديكم عني وذهبتم لغسل أيديكم مني، وشربتم القهوة، وأكلتم الفاكهة والحلوى.

تركتموني وحيدة، وجاء الخدم والعمال وحملوني إلى هذه الحاوية المليئة بالفضلات والمهملات، ألقوني بلا عطف ورحمة وسط أكياس القمامة، جاءت القطط لتعبث بي فأكلت اللحم وتركتني مهملة حزينة كئيبة.

      تذكرت الجوعى في كل البلاد الفقيرة وكيف يتشوقون إلى أكلي، ورؤية وجهي، ولكنكم لوثتموني وحولتموني رغم جمالي إلى قمامة، وضاع المجهود الطويل الذي بُذل في استنباطي وتحسيني وزراعتي وحصدي وبيعي ونقلي إليكم في العبوات الجميلة.

      أصبحت وحيدة منبوذة وسط القاذورات، صرخت عليك لتنقذني وتنقذ أقراني من هذا المصير المشؤوم وتنقل شكواي إلى أصحاب القلوب الرحيمة والعقول الصريحة السليمة، والمنفذين والمهتمين بالزراعة والبيئة والغذاء والصحة والدواء والتقنية الحيوية والنظافة العامة عساهم أن يدرسوا حالتي ويجدوا حلا لمصيبتي التي وضعت فيها بالبطر والطمع ونكران النعم، ألم تعلموا أن هذا السلوك كفر بنعم الله عليكم؟ وقد تعلمتم من دينكم أن الكفر يزيل النعم وينزل عليكم والعياذ بالله النقم!!

     هذه نهاية مأساوية لدرة ثمينة مثلي، لذلك أنا أصرخ بكل قوتي، اتقوا الله فيَّ وفي أخوتي من الحبوب والبذور، والفواكه، والخضراوات التي تأتيكم منا من الله عليكم بلا كد ولا نصب ولا تعب.

      لقد ألقيتموني للأسف الشديد في حاويات قمامتكم، وهذه نهاية محزنة، وقصة مؤلمة، والله لو اجتمع العالم كله على أن يخلق حبة مثلي لعجزوا، ولكن الله تعالى خلقني وأكرمني وأنتم أهنتموني وضيعتموني في نهاية محزنة وقصة مؤلمة، في النهاية ألقيتموني مع القمامة، وكثير من العباد يتمنونني ويحلمون بحبة مثلي يسدون بها رمقهم، ويدفعون بي الجوع من بطونهم فهم يشتاقون إلى طبخي وسلقي ورائحتي وأكلي.

ألم تسمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أكل البر والتمر واللحم بكى وقال بر وتمر ولحم، كلا لتسألن يومئذ عن النعيم.

هذه قصتي، هذه صرختي، وأنا أشكوكم إلى رب النعم الذي أفاء عليكم بنعمه الظاهرة والباطنة وللأسف لم تقدروا هذه النعم.

      هذه الرسالة أمانة من تلك الحبة المهانة أنقلها إليكم عساكم أن تشعروا بقيمة كل حبة وبذرة وثمرة، ولا تشتروا إلا ما تأكلون، ولا تلقوا بنعم الله إلى حاويات القمامة ليديم الله علينا النعم ويرحمنا سبحانه من نزول النقم، أذكركم بقول الله تعالى: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) النحل (112).

اللهم إنى قد بلغت اللهم فاشهد.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٤٥٢٠ – الأحد ٢٤ ديسمبر ٢٠١٧ م، الموافق ٠٦ ربيع الآخر ١٤٣٩هـ