لعبت العقلية الخرافية لبعض حاملي الشهادات العلمية والشرعية دورا سلبيا جدا في الوقاية من الأمراض المعدية وخلط هؤلاء بين المفاهيم العلمية والشرعية والخرافة خلطا عجيبا

فقد ادعى أحد العلميين أن الجراثيم جراثيم مع إيقاف التنفيذ في الأماكن المقدسة، وادعى أحد الشرعيين أنه لا عدوى ولا أمراض معدية، الأول استند في فكره الخاص إلى الخلط بين معجزة عدم تلف وتغير طعام الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها في قول الله تعالى: (فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) (البقرة/259) أي لم يتغير رغم مرور مائة عام عليه، وهذه معجزة والمعجزة كما نعلم شيء خارق للعادة يجريه الله على يد عباده لبيان قدرته. والثاني اعتمد في فهم خاص للحديث النبوي الشريف الذي في بداية قول المصطفى صلى الله عليه وسلم (لا عدوى) ونسي أن يفهم نهاية الحديث (وفر من المجذوم فرارك من الأسد). ونسي الهدي النبوي عندما جاءه المجذوم ليبايعه فقال له المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: (ارجع فقد بايعناك) ولم يضع يده في يده ليعلمنا كيف نقي أنفسنا من الأمراض المعدية.

وقد لاقى الرأي الخرافي الأول صدى كبيرا عند العقليات غير العلمية، ورأى بعض حملات الحج في رأيه دعاية لجذب الناس إلى الذهاب معهم للحج لدرجة أن إحدى الحملات كتبت في دعايتها أن ضيوف الرحمن في رعاية الله ولا خوف عليهم وهي العبارة نفسها التي رددها الأول وكتبها آلاف المرات. وعندما نعود إلى السنة النبوية المطهرة والى فهم الصحابة الكرام نجد المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم الطاعون بأرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها) متفق عليه.

وفي هذا الهدي العلمي النبوي يشرع المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم للحجر الصحي، ومحاصرة المرض في الأرض التي وقع فيها ومنع الناس من الدخول إليها وقاية لهم من العدوى، ومنعهم من الخروج منها حتى لا ينقلوا المرض وينشروه في المكان الذي ينتقلون إليه. وقد مات عدد كبير من الصحابة رضوان الله عليهم في طاعون عمواس، ولم يقل لهم أحد أنكم أصحاب رسول الله وأنتم في رعاية الله فلا قلق عليكم. وعندما علم الفاروق أن الوباء قد وقع بالشام قال ابن عباس: (فقال لي عمر: ادع لي المهاجرين الأولين فدعوتهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا، فقال بعضهم: خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي الأنصار، فدعوتهم فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين، واختلفوا كاختلافهم فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي من كان ها هنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم فلم يختلف عليه منهم رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر رضي الله عنه في الناس إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه، فقال أبوعبيدة بن الجراح رضي الله عنه: أفرار من قدر الله؟ فقال عمر رضي الله عنه: لو غيرك قالها يا أباعبيدة، وكان عمر يكره خِلافهُ: نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله.. فجاء عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه، وكان متغيبا في بعض حاجته، فقال: إن عندي من هذا علما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم به (أي بالطاعون أو الوباء) بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه، فحمد الله تعالى عمر رضي الله عنه وانصرف) (متفق عليه).

وفي هذا الموقف التربوي العظيم العديد من الدروس منها:

ــ أن الناس اختلفوا في إبداء رأيهم في الوقاية كل حسب علمه واجتهاده.

ــ أن عمر توقف حتى يتبين الأمر.

ــ أصحاب الرأي قالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء.

ــ أصحاب العلم القطعي أتوا بالدليل العلمي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بضرورة عدم الدخول على الوباء.

ــ القول الفصل في القضية حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا سمعتم الطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض أنتم فيها فلا تخرجوا منها) متفق عليه.

و الأصل في القضية أن المسلم مطالب بالحفاظ على نفسه وبدنه من الهلاك، وعليه أن يحترز من العدوى بالأمراض المعدية والخطرة التي قطع العلم بأنها معدية ومهلكة. وإذا كان المسلمون والملائكة يتأذون من رائحة البصل والثوم ونهى المصطفى صلى الله عليه وسلم، من الذهاب إلى المسجد واعتزال المصلين فالأمراض المعدية أولى أن نتحرز منها فهي بكل تأكيد مؤذية والأخذ بالأسباب مطلب شرعي قال الله تعالى عن ذي القرنين: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً{84} فَأَتْبَعَ سَبَباً{85{) الكهف (84 ــ 85).

قال الشيخ عبدالرحمن بن السعدي رحمه الله في تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: (أعطاه الله (تعالى) من الأسباب الموصلة له لما وصل إليه به يستعين على قهر البلدان وسهولة الوصول إلى أقاصي العمران، وعمل بتلك الأسباب التي أعطاه الله (تعالى) إياها، أي استعملها على وجهها، فليس كل من عنده شيء من الأسباب يسلكه) انتهى.

فالله مسبب الأسباب، ومعطي العلم ولكن ليس كل صاحب علم بقادر على السلوك العلمي السليم، كالمختص في علم الأمراض والإمراض الذي يدعي أن الجراثيم في الحرم جراثيم مع إيقاف التنفيذ وقد أعلنت الجهات المسئولة عن الحج عام (1430هـ) وفاة خمسة وإصابة (73) بإنفلونزا الخنازير في الحج (أخبار الخليج ــ مملكة البحرين يوم الاثنين 30/11/2009م الموافق 13 من ذي الحجة 1430هـ الصفحة (15) ــ أخبار عربية ودولية)، فلماذا لم تتعطل الجراثيم عن هؤلاء وماتوا؟ والخطورة تكمن فيمن يغادرون الحرم إلى مجاهل أفريقيا والقرى الفقيرة في آسيا وهم في بداية العدوى وينشرون الوباء في بلدان فقيرة لا رعاية صحية كافية لهم في بلدانهم.

علينا أن نفهم الدين فهما مقاصديا صحيحا وألا نعتمد على الأفكار الكهنوتية، وألا نحاول صدام الدين مع العلم الحديث لأن هذا يضر بالدين وبسمعة المسلمين، ويعرض المسلمين للهلاك كما يفعل الدجالون الذين يدعون أنهم يعالجون بالأعشاب وهم جهلاء بتصنيف الأعشاب علميا، وبتحليل الأعشاب علميا، وبتجريب الأعشاب علميا، ووصف الدواء الوصف الطبي الصحيح لذا وجب التنبيه والله أعلم.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد (12054) – الجمعة 25 مارس 2011م