كتبت منذ أكثر من ربع قرن مقالا في جريدة أخبار الخليج بعنوان: (أخرجونا من هذه المأساة يرحمنا ويرحمكم الله) ونشرته في كتابي (القافزون من القطار وخطرهم على الأمة)، وجهته إلى المتخذين من أول أبواب الفقه الإسلامي مجالا دائما لإعطاء الدروس في المساجد، وبينت كيف حبسوا المسلمين في هذا المجال ولم يخرجوهم منه إلى رحابة الفقه الإسلامي العظيم، وذاع صيت هذا المقال فزارني أحد الإخوة ومعه كتابي وأخذ يقرأ المقال في نشوة وتلحين وهو في غاية السرور بسبب هذا البيان المؤثر لهذه الفئة من الدعاة من الكاتب الإسلامي الذي نشر هذا البيان بأسلوب أدبي لاذع ومجسد للحقيقة ضد هذه الفئة من الدعاة الذين لم يتجرأ أحد من الكتاب الإسلاميين أن يقوله لهم بهذا الأسلوب.

– ودارت الأيام واختفى هذا الصنف من الدعاة تحت وطأة التقدم العلمي والإعلامي والوعي الديني المعاصر والتفتح الذهني وانصراف الناس عنهم.
– وبعد اطلاعي على ما يقال في وسائل التواصل الاجتماعي من بعض المفسرين للإشارات العلمية في الآيات القرآنية تأكّدت أن الصنف القديم من الدعاة يتوارى خجلا أمام فوضى بعض المفسرين العلميين لآيات القرآن الكريم،فما يدور على الساحة الإسلامية الإعلامية وتجرؤ على كتاب الله، ومن تسلق وتسابق نحو الشهرة الإعلامية منهم هو أقرب للبهلاوانية منه للتفسير العلمي، وخاصة عندما يتكلم أحدهم في جميع العلوم: كالفلك والطب والهندسة والجغرافيا والزراعة والنبات والحيوان والكائنات الحية الدقيقة والجيولوجيا والتنوع الحيوي والتصنيف والتاريخ واللغة، ويضفي على نفسه ألقابا بعيدة كل البعد عن تخصصه العلمي الدقيق ويتبارى في نقل التفاسير العلمية بطريقة مخزية وكأنه أول من قال هذا التفسير، وقد لعبت الأمية العلمية لبعض المذيعين والمذيعات الدور المخزي في الإنبهار بما يقال لأنهم لم يسمعوا هذا الكلام من قبل لأنّ معظمهم من خريجي الكليات والأقسام الأدبية، ولم يدرسوا مقررا جامعيا واحدا في العلوم الكونية، ولقد شاهدت مذيعة مشهورة تقف مذهولة أمام أحدهم وهو يصف تركيب الجزيئ الوراثي (DNA) بطريقة أولية ساذجة، كما شاهدت أحد المتخصصين في الأدب يقدم محاضرة عن الخريطة الوراثية (الجينوم) لحشد من الناس في مكتبة عامة شهيرة، ولبعض المفسرين غير العلميين عشرات المحاضرات في النبات والحيوان والجيولوجيا والفلك والطب، وسمعت العديد منهم يفسر نواتج عملية البناء الضوئي بطريقة خاطئة وبعضهم اتخذ من الدعاية التي نالها في ديارنا العربية مجالا للحديث في كل شيء، وبعضهم يعطل صفات الخالق سبحانه وتعالى ويؤولها وينشرون مفاهيم ومعلومات علمية خاطئة مما أدى إلى فهم غير المتخصصين من المستمعين الحقائق العلمية بطريقة خاطئة وعلى غير حقيقتها العلمية وبذلك حولوا التفسير العلمي والإعجاز العلمي إلى فوضى إعلامية وإلى مطية يركبها كل باحث عن الشهرة وتعويض ما فاته من التعليم والتعلم وقت شبابه. أقول لهؤلاء الدعاة الجدد كما قلت للدعاة السابقين (أخرجونا من هذه المأساة يرحمنا ويرحمكم الله)، واتقوا الله في المسلمين وغير المتخصصين، وأنتم تعلمون أن شرط قبول الأعمال عند الله (الإخلاص والصواب) والمعلوم من الدين أن الرجل يقاتل ويقتل ويدخل النار لأنه قاتل ليقال مقاتل، وكذلك المتصدق للشهرة، وناشر العلم ليقال عالم.
– أنتم أعطيتم أعظم فرصة للعلمانيين (بفتح العين) والجاهلين والحاقدين لمهاجمة التفسير العلمي للإشارات الكونية في القرآن الكريم وبيان أوجه الإعجاز فيها.
– إذا كان التفسير العلمي للآيات القرآنية ضرورة عصرية في عصر العلم فإنّ الالتزام بالضوابط العلمية التي وضعها العلماء للتفسير العلمي واجب على كل متحدث ومؤلف ومعد برامج في هذا المجال ومقدمها ومن هذه الضوابط:
– أن يكون المفسر عالما بالعقيدة الإسلامية الصحيحة على منهاج سلف الأمة ويكون دارسا للتوحيد عالما بالألفاظ المحظور استعمالها في حق الله سبحانه وتعالى وأن لا يعطل صفات الله سبحانه وتعالى وأن يبتعد عن التأويل والاجتهادات الشخصية في هذا المجال.
– أن يفسر كل مفسر في مجال تخصصه الدقيق في درجات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه التي حصل عليها في الجامعة.
– أن يكون المفسر ملتزما بالإسلام عقيدة وشريعة ومنهاجا وسلوكا، وأن يكون معلوما عنه ذلك.
– الالتزام بالمعنى اللغوي للكلمات وعدم الحيود عنه بأي حال من الأحوال وعدم الذهاب إلى التأويل الفاسد.
– تجنب التفسير بالنظريات والفرضيات.
– لا داعي للتكرار، وجمع ما كتبه الآخرون في مجال التفسير وإعادة نشره، وأن يلتزم بكتابة المراجع والهوامش بطريقة علمية صحيحة، وأن يرجع كل قول ونقل إلى صاحبه بوضوح بعيدا عن التدليس.
– يحبذ أن يكون المفسر العلمي قادرا على إضافة الجديد في مجال تخصصه الدقيق فتفسير آيه واحدة بأصالة وجدة وإبداع ووضوح ويسر أفضل من تجميع أقوال العشرات من المفسرين وتكرارها وتزدادها ونشرها ووضع اسمه عليه وكأنها من تأليفه.
– على المفسر العلمي أن يضع نصب عينيه قول المصطفى صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) جزء من حديث رواه البخاري ومسلم.
– على المفسر العلمي أن يلتزم بالأحاديث النبوية الصحيحة وكتابة تخريجها وأن يبتعد عن الضعيف والمكذوب أو إهمال كتابة التخريج.
– استخدام المراجع العلمية المحققة والمخرجة الأحاديث والبعد عن المراجع غير المحققة تحقيقا علميا دقيقا على يد أساتذة في التحقيق.
– تجنب الافتعال في التفسير ولي أعناق الكلمات لتتوافق مع الفهم الخاص بالمفسر العلمي.
– أن لا يعارض تفسيره للآيات تفسير آيات أخرى في القرآن الكريم.
– الاعتماد على التفسيرات والمفسرين المشهود لهم بالعقيدة الصحيحة، والمنهاج العلمي في التفسير والمقبولة من الأمة والمخرجة الأحاديث والمحققة تحقيقا علميا صحيحا.
– البعد عن التفسيرات الباطنية والمنسوبة لبعض الفئات الضالة والكتاب العلمانيين (بفتح العين) والمرجفين.
– عرض التفسير على بعض الثقات من المتخصصين في العلوم الشرعية وإلغاء كل ما يدور حوله الجدل والنزاع والاختلاف المفضي إلى تشتيت المسلمين وزرع الفتنة بينهم والبعد عن التأويلات المثيرة للجدل.
– وأخيرا أقول لنفسي ولجميع المسلمين كما قال تعالى: «واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون» (البقرة- 281).

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٣٧٣٤ – الجمعة ٣٠ أكتوبر ٢٠١٥ م، الموافق ١٦ محرم ١٤٣٧ هـ