قابلته للمرة الأولى عام (1988م) في مركز الحورة الصحي، شاهدته شابا أنيقا وسيما مبتسما ودودا، سألني عن وظيفتي ومؤهلاتي وأسرتي،

 شعرت بارتياح كبير، خرجت من عنده وقد أزال عني آلام المرض والإحساس بالغربة، علم بعد ذلك أني أكره الذهاب إلى المصحات والمراكز الطبية، ذكرني بقصة انجليزية كنا ندرسها في المرحلة الإعدادية في خمسينيات القرن الماضي تسمى (Symptoms) أي أعراض المرض، ظل يتعامل معي من هذا المنطلق، توطدت العلاقات الشخصية بيني وبينه وخاصة بعد مشاركتي في تأليف كتب الأحياء للمرحلة الثانوية وتحريرها، أعجب بالمادة العلمية كثيرا وبطريقة عرض الموضوعات، استعنت به في المعلومات الصحية الخاصة بالبحرين والأمراض الشائعة والوراثية، دعاني إلى بيته وشاهدت مكتبة متميزة في الطب والأدب والتاريخ والدين، كانت الكتب هي القاسم المشترك بيننا، وكان يتبادل المعلومات معي في مجال الكائنات الحية الدقيقة والخلية والوراثة، ألفته عالما طبيا متميزا، كنت لا أذهب للكشف الطبي إلا عنده، وكان يتعامل معي بطريقة طبية وعلمية متميزة، تقدم لامتحان الزمالة العربية وكانت المفاجأة السارة أنه من المتفوقين من أول مرة، كان يُدرس في كلية الطب بجامعة الخليج العربي بدرجة أستاذ مساعد، ويقدم البرامج الصحية بطريقة متميزة في التلفزيون والإذاعة، عندما دخل الحاسوب كان من أوائل الأطباء في التدريب على الحاسوب، يؤمن بالتقنية الحديثة، وكان محاضرا متميزا في الندوات العامة والمجالس الخاصة، كان رحمه الله يحب القراءة بطريقة متميزة. ذهبنا سويا لشراء الكتب من المعارض والمكتبات وكان سخيا في شراء الكتب، وهذه سمة من سمات العلماء، الكتاب مقدم على كثير من المتطلبات الأخرى في الحياة، كنت أرى تعامله مع المرضى وكأنه والد، وأخ حنون، وصديق صدوق، الكل في مركز النعيم الصحي يحبه ويألفه، يعرف الكثير عن السيرة الذاتية والأسرية والاجتماعية للمرضى والموظفين ولا يبوح بها لأحد، يحافظ على أسرار المرضى، من الأوائل في طب العائلة في البحرين، تعرفت بعض حبه للخير والعطاء أنا من الذين له الفضل عليّ، طبع بعض كتبي على نفقته الخاصة وأبى أن أكتب له كلمة شكر على ذلك، كان دائما يلح علي ويقول أنا أريد طباعة كتب أخرى، كنت أتهرب منه إشفاقا على ميزانيته، وكان يلح عليّ حتى استجيب.
ـ كان يسأل عن الفقراء والمحتاجين والمرضى بطريقة خفية، ظل يعمل لسنوات طويلة في الغرفة رقم (4) بمركز النعيم الصحي، أُغمي عليه في المركز ذات مرة ونشرت الصحف نبأ وفاته وشاء الله له العيش بعد ذلك عشرات السنين، عندما أبلغتني ابنته الطبيبة أنه منذ أيام أغمي عليه وهو يرقد في مستشفى السلمانية ظللت أبكي بطريقة عجيبة ولم أستطع أن أذهب إليه حتى لا أراه راقدا ووصلات العلاج تملأ وجهه، أردت أن يكون آخر عهدي به وهو يبتسم وينادي علي عندما يراني في المركز الصحي ويقول تعال، لا تخاف كنت أشعر بالأبوة والأخوة والصداقة، أخلص كثيرا في عمله واهتم بتربية أبنائه وتعليمهم وكان مثالا يحتذى في الطب والعلم والثقافة والمعاملة الإنسانية والهدوء والأبوة، إنه الأستاذ الدكتور أحمد عبد الغفار الجرف رحمه الله رحمة واسعة، وكفّر الله عنه بالأيام التي قضاها مخلصا في عمله أو راقدا في المستشفى حتى أتاه اليقين.
ـأحب البحرين حبا عجيبا، كان حريصا على تقدمها وخاصة في مجالي الصحة والثقافة.
أدعو الله أن يرحمه، ويدخله فسيح جناته، ويثيبه عني خير الجزاء، وأن يجعل قبره روضة من رياض الجنة، ويفرّج عنه في قبره بعدد ما فرّج عن آلاف المرضى مدة تزيد على ثلاثين عاما في خدمة الطب والمرضى وطلاب الطب في البحرين.
نطلب منكم الدعاء له والترحم عليه. رحمك الله رحمة واسعة يا حبيبي يا دكتور أحمد الجرف، لقد قض مضجعي من يوم أن رقدت في المستشفى إلى اليوم.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – العدد : ١٣٤١٩ – الجمعة ١٩ ديسمبر ٢٠١٤ م، الموافق ٢٧ صفر ١٤٣٦ هـ