من أهم المناسبات الدينية التي عشناها في طفولتنا في مصر ليلة الإسراء والمعراج والمولد النبوي الشريف وليلة النصف من شعبان وقدوم شهر رمضان وبداية العام الهجري، كلها احتفالات تزخر بالفرح والبهجة والسرور.

 

ففي المولد النبوي في بلدتنا كنا نحتفل بالمولد بطريقة مميزة، حيث قسمت أيام شهري ربيع الأول وربيع الثاني بين العائلات الكبرى المكونة للتجمعات السكنية الكبرى وكان نصيب عائلتنا يوم (12) من ربيع الأول لما تتمتع به العائلة من مكانة اجتماعية وعلمية ودينية متميزة.

وكنا نستعد للاحتفال بالمولد النبوي من شهر جمادى الأولى بعد انتهاء ربيع الثاني مباشرة، حيث يقوم كل بيت بتربية عدد لا بأس به من البط والأوز الذكور لما يتميز به لحمه من مكانة عالية، وتظل كل أسرة تربي وتعلف في طيور المولد وجميع الجيران يعلمون أن هذه خاصة بالمولد النبوي فيولونها تقديرا واحتراما وكانت تتجمع هذه الطيور في الترعة الكبرى التي تشق بيوت وأراضي البلدة وعند الغروب تخرج طوابير بط وأوز المولد وتتبختر في طرقات العزبة وكل مجموعة خاصة بالمنزل الأول تنفصل عن الجماعة وتدخل البيت ثم يليها مجموعة البيت الثاني والثالث والرابع إلى آخر بيت في العزبة وكنا نرى هذا المنظر البديع في الصباح والمساء.

ويوم المولد تقوم العائلة بنصب سرادق كبير يتسع لعشرات الآلاف من الفقراء والمساكين الذين يحضرون ويجلسون على موائد الطعام التي تعدها الأسر في تنافس عجيب من حيث الكم والكيف، وكان طابور الرجال الحاملين لصواني الطعام طويلا، وهناك من ينظم الجلوس وكل أسرة ترسل أبناءها لخدمة الجالسين على طعامهم ويلبون طلباتهم وإمدادهم بالطعام إلى أن يصلوا إلى حد التخمة والشبع، وبذلك كان الفقراء والمساكين يأكلون أطيب الطعام وأشهاه مدة ستين يوما، وكانت نساؤهم يحضرن الأواني النحاسية الكبيرة لأخذ الطعام من البيوت في عزة وكرامة وشكر، وبعد صلاة العشاء يتجمع الجميع في السرادق الكبير المقام لذلك وتقص عليهم أحداث السيرة النبوية من العلماء وطلاب العلم الشرعي، ويتبارى الشباب والأطفال في إلقاء الكلمات الخاصة بالذكرى وقصائد الشعر العربي العمودي الموزون، وكانت العائلات تتبادل الحضور في هذا السرادق الضخم والكل يلبس أزهى الملابس والعباءات (البشوت) الرجالية ذات الصناعة اليدوية والمصنوعة من أفخم الأقمشة الصوفية والحريرية، وكل والد يحضر أولاده ويحثهم ويشجعهم على إلقاء الكلمات والقصائد، وفي ذات الوقت توزع القهوة التركية والحلوى الجميلة والفواكه اللذيذة، والفقراء يحملون منها إلى أولادهم، ويختتم الحفل بالأناشيد الدينية الجماعية في بهجة وسرور الأطفال والشباب والرجال والنساء حقا في يوم عيد وكأن المصطفى صلى الله عليه وسلم يجلس معهم ويرى احتفاءهم واحتفالهم بوجوده وتشريفه لهم، وكان الاحتفال خاليا من المخالفات الشرعية والكلمات الشركية، وظل الحال على هذا المنوال لمئات السنين إلى أن جاء من يحرّمون هذا المهرجان الكبير، وحرم الفقراء والمساكين من طعام ستين يوما متتابعة، وكذلك كان الاحتفال بيوم الإسراء والمعراج في المساجد وليلة النصف من شعبان، وقد عمل العَلمانيون (بفتح العين) على طمس هذا الاحتفال الذي كان يجيش الأطفال والشباب للاحتفال بدينهم وتذكيرهم بسيرة نبيهم. الآن اختفت هذه الاحتفالات، وانصرف الناس إلى المسلسلات والمسرحيات والأفلام الماجنة والمخدرة لهم والتي عادة ما تتهكم على مشايخ الدين وأساتذة اللغة العربية والمأذون.

وقد راجت في مصر لسنوات طويلة حلوى المولد النبوي التي تعتبر موسما للتجار والصناع ينتظرونه من العام إلى العام، الآن حلت الجاتوهات والكريمات والشوكولاتات الغربية والمثلجات محل هذه الحلوى المليئة بالبذور والحبوب المفيدة للجسم، ونسي الناس بط المولد وأوز المولد وخراف المولد وحرم الفقير والمسكين من لحومها وما يصاحبها من الطعام الشهي اللذيذ.

ـ فما رأي المعارضين لهذا الاحتفال في هذا الوصف السابق؟ وما هي المخالفات التي يرونها في أحداثه؟ وما هي الضوابط التي يجب اتباعها للاحتفال بالمولد النبوي من دون مخالفات شرعية؟

وما رأي مَن قتلوا هذه الاحتفالات ولم يوجدوا البديل للفقراء والمساكين والناس للاحتفال بيوم من أيام المسلمين المميز والجميل؟!!!

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٣٤٥٤ – الجمعة ٢٣ يناير ٢٠١٥ م، الموافق ٣ ربيع الثاني ١٤٣٦ هـ