سورة آل عمران من أدلة تقدير واحترام الإسلام لأسرة آل عمران ومنها السيدة مريم أم السيد المسيح عليه السلام، وقد بدأت السورة بتوحيد مصدر الهداية ومصدر الكتب السماوية فقال تعالى (اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (آل عمران: 2).

وفي هذا إثبات لعقيدة التوحيد أساس الدين عند الله، وفي هذا نفي لألوهية عيسى عليه السلام، فالله منزل التوراة والإنجيل والقرآن، الكل من مشكاة واحدة كما قال النجاشي لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، فالمعبود بحق هو الله، مصدر كل النعم، وهو الخالق المسيطر على الكون والنفوس الحي القيوم، فالله خلق عيسى، فكيف قامت ودبرت السماوات والأرض ومن فيهن قبل وجود المسيح وبعد موته وأثناء صلبه. (انظر التفسير المنير، مرجع سابق، ج3، ص: 146).

قال تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران: 26).

يأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول عن ربه معلنًا بتفرده بتصريف الأمور، وتدبير العالم العلوي والسفلي واستحقاقه باختصاصه بالملك المطلق والتصريف المحكم، وأنه يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء، فليس الأمر بأماني أحد من الناس بل الأمر أمر الله والتدبير له، فليس له مكافئ في تدبيره، ولا معاون في تقديره، كما أنه المتصرف بمداولة الأيام بين الناس فهو المتصرف في الزمان: (يولج النهار في الليل ويولج الليل في النهار) أي: يدخل هذا على هذا، ويحل هذا محل هذا، ويزيد في هذا ما ينقص من هذا ليقيم بذلك مصالح خلقه. (تيسير الكريم الرحمن، مرجع سابق).

(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران: 27).

والربط بين ولوج الليل في النهار، والنهار في الليل وإخراج الحي من الميت، وإخراج الميت من الحي ورزق العباد فيه إعجاز.

فالنبات يستخدم ضوء النهار وحرارة الشمس وأشعتها في البناء الضوئي الذي يحول هيدروجين الماء والضوء والكربون إلى مواد كربوهيدراتية، ويحول بعضها إلى المواد البروتينية والدهنية وينتج الإنزيمات، وهذه المواد كلها مواد ميتة يستخدمها النبات بالليل والنهار لإنتاج الخلايا الحية القابلة للنمو والتكاثر مصداقًا لقوله تعالى: (تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ)، كما يقوم النبات بعمليات الهدم لإخراج الميت من الحي، ويرزق الله عباده بالإنتاج النباتي الذي يعتمد عليه الإنتاج الحيواني، ويسعى الناس على أرزاقهم بالنهار وفي الليل بحسب نوع العمل.

ومن عدالة القرآن قوله تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران: 75).

إنها العدالة في الحكم على الناس وليس وضع الناس كلهم في سلَّة واحدة، وكما قال تعالى: (لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ* يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) (آل عمران: 113-115).

علينا البعد عن التعميم في الحكم على الأمم والشعوب والجماعات فمنهم الصالح ومنهم الطالح.

المعلوم أن دين الله واحد وهو الاستسلام لله وحده رب كل شيء ومليكه، وأن الأنبياء كلهم جاءوا بالاستسلام للخالق سبحانه وتعالى وقد أمرنا أن نؤمن بذلك ونؤمن بما جاء به الأنبياء والرسل كما قال تعالى: (قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران: 84-85).

قل يا محمد: آمنت وأمتي بوجود الله ووحدانيته وسلطانه، فهذا أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يخبر عن نفسه، وعن أمته بالإيمان، فلذلك وحد الضمير في (قُلْ) وجمع في (آمَنَّا)، ويجوز أن يؤمر بأن يتكلم عن نفسه كما يتكلم الملوك إجلالاً من الله لقدر نبيه صلى الله عليه وسلم كما ذكر الزمخشري.

وآمنا بما أنزل علينا وهو القرآن، وصدقنا بما أنزل الله من وحي على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وذريته الأسباط.

فجوهر المنزل واحد، كما قال تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً) (النساء: 163).

وصدقنا بما أوتي موسى من التوراة، وعيسى من الإنجيل وسائر المعجزات وخص هذين النبيين بالذكر، تبيانًا لأتباعهم وهم اليهود والنصارى بأن الإيمان عام في منهاج القرآن، وكذلك صدقنا بما أوتي بقية النبيين من رسالات كداود وسليمان وصالح وهود وأيوب وغيرهم ممن لم نعلم قصصهم.

وبعد الأمر بالإيمان جاء الأمر بالإسلام ؛ لأن الإيمان بوجود الله وهو التصديق به هو الأصل، وعنه يصدر العمل الصالح، وأما الإسلام فهو توحيد الله وإخلاص العبادة له والانقياد لشرعه ومناهجه وهو يأتي تبعًا لأصل الاعتقاد ومن يعتنق غير الإسلام (وهو التوحيد وإسلام الوجه لله تعالى) دينًا، فلن يقبل منه قطعًا، وهو من الذين وقعوا في الخسران مطلقًا، لأنه سلك طريقًا سوى ما شرعه الله، وأضاع ما جبلت عليه الفطرة السليمة من توحيد الله والانقياد لأوامره.

ومن هنا نفهم أن الإيمان بوجود الله ووحدانيته، والانقياد لطاعته والتزام منهاجه وشرعه، وهو شرع الأنبياء، ودين الرسل الذي ارتضاه لعباده، وجعله أساس الاحتكام إليه وطريق النجاة به يوم المعاد، فمن سلك طريقًا آخر سوى ما شرعه الله، فلن يقبل منه قطعًا في الآخرة، وكانوا من الذين خسروا أنفسهم وأضاعوا حياتهم في غير المفيد لهم. (التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، وهبة الزحيلي، مرجع سابق، ج3، ص: 285).

وللحديث بقية بإذن الله..

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – مع الصائمين – العدد : ١٣٦٠٠ – الخميس ١٨ يونيو ٢٠١٥ م، الموافق ١ رمضان ١٤٣٦ هـ