afla-yatdbroon-al-quran-3

من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده حثهم على ما ينفعهم في الدنيا والآخرة ومناداتهم إلى دخول الجنة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فيها النعيم المقيم الذي لا يتغير ولا يتبدل ولا ينفد، ناداهم بالمسارعة والمسابقة إلى ما أعد لهم مقابل أعمال خيرية يقومون بها في الدنيا الفانية.

قال تعالى: (سَابِقُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الحديد: 21).

وقال تعالى: (وَسَارِعُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران: 133).

وأمرهم سبحانه وتعالى بالمسارعة إلى مغفرته وإدراك جنته التي عرضها السماوات والأرض فكيف بطولها، التي أعدها الله للمتقين فهم أهلها. (تيسير الكريم الرحمن، مرجع سابق).

يا له من نداء الرحمن الرحيم ودعوة الكريم الرحيم ينادي عباده بالمسارعة والمسابقة إلى التمتع بنعيمه الذي أعده لهم وخلقه من أجلهم ودلهم على ما يؤهلهم لدخول الجنة وامتلاكه والتمتع به، أصحاب النعيم في الدنيا والملك يقيمون حوله الأسوار، ويضعون الأبواب الحديدية، ويعينون الحراس، ويربون الكلاب والسباع لمنع الناس من دخوله ويضعون اللاّفتات عليه – ممنوع الاقتراب أو التصوير، احترس كلاب مفترسة، ويضعون الكاميرات لتسجيل من يقترب أو يدفعه فضوله لرؤية ما بالداخل، أما رب العباد فيدعو الناس لدخول جنته والاستمتاع بنعيمه ونعمه ويحفزهم للحصول عليه ويصفه لهم وصفًا يشوقهم لامتلاكه كل ذلك مقابل تقواه والتخلق بالأخلاق الحميدة التي تنفع صاحبها قبل أن تنفع الآخرين، وتزين صاحبها قبل أن تزين الآخرين، فأي كرم هذا وأي رحمة هذه.

ثم وصف في خير كتبه وأرسله مع خير رسله، وصف المتقين وأعمالهم فقال: (الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء) أي: في حال يسرهم وعسرهم، إن أيسروا أكثروا من النفقة على الفقراء والمساكين والمحتاجين وفي سبيل الله وفي الأعمال الخيرية والنافعة، وإن أعسروا لم يحتقروا من المعروف شيئًا ولو قلّ ولو بشق تمرة، (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ) فإذا حصل لهم من غيرهم أذية أغاظتهم وملأت قلوبهم بالحنق الموجب للانتقام بالقول والفعل، هؤلاء لا يعملون بمقتضى الطباع البشرية بل يكظمون ما في صدورهم من الغيظ ويصبرون على مقابلة المسيء إليهم بالتربية الحسنة والأخلاق الفاضلة. (المرجع السابق).

يا لها من تربية فاضلة وتطبيع فريد إن شاع بين الناس شاع الأمن والأمان واختفى الانتقام والثأر والعديد من المشكلات، إنها دعوة فاضلة لأناس فضلاء تؤهلهم لدخول دار الفضل والبقاء مع الأحبة والمماثلين لهم من الأصدقاء والأشقاء والوالدين، إنها دعوة لتأسيس أسر فاضلة، ومجتمعات فاضلة وأمم فاضلة. (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) ويدخل فيه العفو عن كل من أساء إلينا بقول أو فعل، والعفو أبلغ من الكظم، لأن العفو ترك المؤاخذة مع السماحة من السيئ، وهذا يكون ممن تحلى بالأخلاق الحميدة وتخلى عن الأخلاق الرذيلة، وممن تاجر مع الله وعفا عن عباد الله وعن الناس كل الناس رحمة بهم وإحسانًا إليهم، وكراهة لحصول الشر عليهم، وليعفو الله عنه ويكون أجره على ربه الكريم لا على العبد الفقير كما قال تعالى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى: 40).

ثم ذكر حالة أعم من غيرها وأحسن وأعلى وأجل، وهي الإحسان، فقال تعالى: (وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، ثم ذكر اعتذارهم لربهم من جناياتهم وذنوبهم (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم) (وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُون) (أُوْلَـئِكَ) (جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِم) (وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) فيها النعيم المقيم والبهجة والسرور والبهاء والقصور والمنازل الأنيقة العاليات والأشجار المثمرة البهية، والأنهار الجاريات في تلك المساكن الطيبات (خَالِدِينَ فِيهَا) لا يحولون عنها ولا يبغون بها بدلاً ولا يغير ما هم فيه من النعيم (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ)؛ عملوا لله. (المرجع السابق).

عملوا بإخلاص وصواب ولم يرفعوا شعارات لم يطبقوها أو وعدوا الناس ولم يعطوهم، أحوالهم وأعمالهم مخالفة لأقوالهم، وما يرشدون الناس إليه في برامجهم ودروسهم وخطبهم، أشكالهم تدل على حال المتقين وأعمالهم أعمال المنافقين المخادعين المتاجرين بالدين.

قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ..) (آل عمران: 155).

هذه قاعدة شرعية خلقية علاجية وقائية مهمة وضرورية للتوفيق والنجاح في الأعمال، والمواجهات مع الأعداء والمرجفين، فالذنوب هي سبب الضعف والخذلان والفشل الذي يعاني منه المسؤولون في أعمالهم، والمخططون للإصلاح في خططهم، والآباء في تربيتهم لأبنائهم والمعلمين مع طلابهم، والمقاتلين مع عدوهم (إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا) من المعاصي والبعد عن طريق الله.

من نعم الله العظمى علينا كما قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) (آل عمران: 164).

هذه المنة التي أمتن الله بها على عباده أكبر النعم بل أصلها، وهي الامتنان عليهم بهذا الرسول الكريم الذي أنقذهم الله به من الضلالة وعصمهم من الهلكة فقال: (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ) يعرفون نسبه وحاله ولسانه ناصحًا لهم مشفقًا عليهم. (المرجع السابق).

بشر مثلهم يأكل مما يأكلون ويتنفس ما يتنفسون ويحزن كما يحزنون ويفرح كما يفرحون، ويتزوج كما يتزوجون، يستطيعون اتباعه وفعل ما يفعل، طاقته بشرية مثلهم، فإن كان ملكًا لفعل ما لا يفعلون أو لتحججوا أن تطبيق هذا الدين يحتاج إلى ملاك ولا يصلح للبشر فكان من نعمة الله على الناس وعلى المؤمنين (إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ)، (يُزَكِّيهِمْ) من الشرك والمعاصي والرذائل وسائر مساوئ الأخلاق، (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ) إما جنس الكتاب الذي هو القرآن فيكون قوله: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ)، المراد به الآيات الكونية أو المراد بالكتاب هنا الكتابة فيكون قد أمتنّ عليهم بتعليم الكتاب والكتابة التي بها تدرك العلوم وتحفظ، (وَالْحِكْمَةَ) هي السنة التي هي شقيقة القرآن، أو (هي) وضع الأشياء في مواضعها ومعرفة أسرار الشريعة والكون، فجمع لهم بين تعليم الأحكام وما به تنفَّذ الأحكام وما به تدرك فوائدها وثمراتها وتعليم الإشارات العلمية الكونية فقام بهذه الأمور العظيمة الشرعية والكونية جميع المخلوقين من العلماء. (المرجع السابق).

وبنوا حضارة علمية خلقية روحية مادية شرعية كونية زاوجت بين التقنية والأخلاق فبعدوا عن صناعة المحرمات والمفسدات والمُدمَّرات كما هو الحال في الحضارة العَلْمانية [بفتح العين]، الغريبة التي أسعدت الإنسان وهددته وأرعبته ودمرته بأسلحتها الفتاكة واستعمرته بقوتها واستعبدت الضعفاء منهم وازداد الغني غنى والفقير فقرًا (وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ) بعثة هذا الرسول (لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) لا يعرفون الطريق الموصل إلى ربهم ولا ما يزكي نفوسهم ويطهرها بل ما يزين لهم جهلهم وجاهليتهم فعلوه ولو ناقض ذلك عقول العالمين. (المرجع السابق)، وكانوا لا يعرفون العمران والتمدن والتمهن وبناء الحضارة الإنسانية الربانية.

وللحديث بقية بإذن الله..

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – مع الصائمين – العدد :١٣٦٠٢ – السبت ٢٠ يونيو ٢٠١٥ م، الموافق ٣ رمضان ١٤٣٦ هـ