من رحمة الله بعباده المؤمنين أن جعل الأصل في الأشياء الحِلَّ مالم يأت نص يحرم، كما أن الأصل في العبادات الحرمة ما لم يأت نص يحلل.

فكل شيء في الدنيا حلال ومباح إلاّ ما حرم الله على عباده بنص صريح صحيح، وهذا من رحمة الله بعباده ومن تيسيره على الخلق ومن كثرة نعمه عليهم وقد تجلى هذا المنهاج الرباني في قوله تعالى: (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأعراف: 19).

فكل شيء مباح لهما في الجنة ما عدا شجرة واحدة.

أباح الله تعالى لآدم عليه السلام وزوجه حواء عليها السلام سكنى الجنة، وأن يأكلا من جميع ثمارها إلاّ شجرة واحدة، فالأمر هنا أمر إباحة لا أمر تكليف، وأباح الله لهما بقوله: (فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا) أي: لهما الأكل من كل ثمار الجنة ومختلف أنواعها، ونهاهما عن الأكل من شجرة واحدة عينها لهما، وعلل لهما النهي بأنهما إذا أكلا منها كانا من الظالمين لأنفسهما لمخالفة أمر ربهما والرضا والتسليم والالتزام به، وهذا امتحان من الله ورحمة في إباحة الكثير الكثير وتحريم القليل القليل. (التفسير المنير، وهبة الزحيلي، مرجع سابق، ج8، ص162).

رآهما عدوهما اللدود والقديم الشيطان ووجدهما سعيدين فرحين متمتعين بالنعم الكثيرة في هذه الجنة الواسعة اغتاظ غيظًا شديدًا، وحسدهما وتمنى زوال نعمتهما وهو يعلم أن المعاصي من الأسباب الرئيسة لزوال النعم، تسلل إليهما وتودد إليهما، وكلَّمهما قال لهما: ما نهاكما ربكما عن الأكل من هذه الشجرة إلاَّ لأحد أمرين: أن تكونا ملكين أو خالدين في الجنة لا تموتان، وتتمتعان بنعيم الجنة طوال حياتكما، وأن تصبحان ملكين.

والسبب في اختيار هاتين الخاصتين أن للملائكة مزايا وخصائص يفتقدها آدم وزوجه، وأن الخلود بدون موت البتة هو أمل الإنسان. (التفسير المنير، مرجع سابق، مع بعض التعديل).

ومازال بنو آدم يودون الخلود والبقاء في الدنيا، ومازال شياطين الإنس والجن يستغلون هذه الأمنية للكسب والدجل على الإنسان، فكل يوم نسمع عن أدوية تطيل العمر، وتمنع العجز، والضعف الجنسي عند الكبار، وتحمي من الشيخوخة والإعلانات تملأ الفضاء الكوني بتلك المغريات، وهناك عمليات التجميل لمنع ظواهر الكبر وكل يوم تجري ملايين العمليات، كل هذا لمغازلة الإنسان بالخلد مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم حثنا على التداوي والعلاج وبين لنا أن الله لم يُنزل داءً إلاّ أنزل له دواء إلاَّ الموت والعجز، وهذه حقيقة علمية لذلك دخل إبليس إلى آدم من هذا المدخل المغري الذي يتمناه كل إنسان.

يمكن للإنسان تأخير مظاهر وأمراض الشيخوخة بالرياضة والغذاء الصحي والبيئة النظيفة والبعد عن النكد، ولكن لم يثبت أن إنسانًا منع الموت والعجز للأبد.

تردد آدم ونازعه النوازع من طاعة الله وحب الخلود والصفات الملائكية، حلف إبليس لهما وأقسم قسمًا مؤكدًا (إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (الأعراف: 21) فإني كنت من قبلكما ههنا وأعلم بهذا المكان، وأعرف أسراره (فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ): أي مازال يخادعهما ويغيرهما بالترغيب والأسباب الشيطانية في الأكل من شجرة الخلد، وبالوعد، وبالقسم بالأيمان المغلظة، حتى نسيا أن الله تعالى أخبرهما أنه عدو لهما، وتمكن إبليس من زحزحتهما وإقناعهما وإسقاطهما من منزلتهما عند الله بسبب طاعتهما (فَدَلاَّهُمَا): فنزلهما إلى الأكل من الشجرة.

فلما ذاقا الشجرة، زال نور الطاعة عنهما، وظهرت عوراتهما وبدا ضعفهما وجعلا يخصفان عليهما من ورق أشجار الجنة ستارًا لعوراتهما. (التفسير المنير – بتصرف).

وهذا ما يفعله دجَّالو التداوي بالأعشاب وأوراق وثمار الشجر من غير علم ودراية إنها سلسلة من الأكاذيب والمعاصي ممتدة من إبليس الجن إلى شياطين الإنس حتى اليوم.

هذا درس في أهمية الطاعة والعلم والثبات على الحق، والبعد عن رفقاء السوء والمفسدين والمعلوم عنهم الكراهية للمؤمنين من العَلمانيين (بفتح العين) الحاقدين على المتدينين المشككين في صلاحية وفعالية دين الله وألوهية رب العالمين.

وناداهما ربهما معاتبًا لهما ومذكرًا لهما (أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) أي: ألم أمنعكما من الاقتراب من هذه الشجرة والأكل منها؟!!

ألم أقل لكما: إن الشيطان ظاهر العداوة لكما، فإن أطعتماه أخرجكما من دار النعيم في الجنة إلى دار الدنيا والشقاء والمرض والنكد والمكائد؟!! فاحذروا الشيطان.

قالا: ربنا ظلمنا أنفسنا بمخالفة أمرك وأتباع شرعك، وطاعة عدونا وعدوك. (المرجع السابق).

لقد نبهنا الله تعالى أن الشيطان عدونا ومازلنا نسير في طريقه، ونتبع طريق السحرة والمشعوذين والدجالين ويتلذذ البعض بهذه الطاعة، وعبدنا العباد وسجدنا للأحجار والأشجار والأموات والقبور.

حذرنا الله من اليهود والنصارى ومع ذلك مازلنا نتخذهم خبراء ومخططين لنا، ومازلنا ننفذ تعليماتهم ونودع أموالنا في بنوكهم، ونتركهم يقسمون ديارنا ويشعلون الفتن الطائفية والمذهبية فيها، وأدخلنا أبناءنا مدارسهم العَلمانية والتنصيرية، كل ذلك ونحن نتوهم أن سعادتنا وتقدمنا وتطورنا في هذا الطريق، إنه نفس الطريق الذي أغرى الشيطان فيه أبانا آدم وأمنا حواء فتعرت نساؤنا (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا) (فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ) و(بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا) (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (الأعراف:22).

فمتى نتعلم، ونقرأ كتاب ربنا قراءة علمية تدبرية مقاصدية واعية بعيدة عن الأساطير والتفسيرات الباطنية وغير المفيدة السائرة في طريق أعداء الله وأعدائنا.

وللحديث بقية بإذن الله..

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – مع الصائمين – العدد :١٣٦٠٥ – الثلاثاء ٢٣ يونيو ٢٠١٥ م، الموافق ٦ رمضان ١٤٣٦ هـ