ونصل في تلك القراءة في سورة آل عمران إلى القضية الكبرى والحقيقة العظمى في الدنيا وفي الآخرة والتي قال الله تعالى فيها: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) (آل عمران: 185).

فقد تضمنت هذه الآية الحقائق الدنيوية والأخروية التالية:

– كل نفس ذائقة الموت فلا خلود في الدنيا بلا موت.

– الدنيا دار العمل والآخرة دار الأجر.

– الفوز الحقيقي بالبعد عن النار ودخول الجنة.

– متاع الدنيا متاع زائل (مَتَاعُ الْغُرُورِ).

– هذه الآية فيها (التعريف بحقيقة الدنيا) بفنائها وعدم بقائها وأنها متاع الغرور تفتن بزخرفها وتخدع بغرورها وتغر بمحاسنها، ثم هي منتقلة ومنتقل عنها إلى دار القرار والبقاء الأبدي والحياة الحقيقية التي تُوفّى فيها النفوس ما عملت في دار الدنيا من خير وشر. (المرجع السابق).

– ومن زرع في الدنيا حصد في الآخرة، فمن زرع الخير حصد الخير، ومن زرع الشر حصد الشر.

(فَمَن زُحْزِحَ) أي أخرج (عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) أي: حصل له الفوز العظيم، بالنجاة من العذاب الدائم الأليم والوصول إلى النعيم المقيم إلى جنات النعيم التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

وفي هذه الآية إشارة لطيفة إلى نعيم البرزخ وعذابه وأن العاملين يجزون فيه بعض الجزاء مما عملوه ويقدم لهم أنموذج مصغر مما أسلفوه يُفْهم هذا من قول الله تعالى: (وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي: توفية الأعمال التامة إنما يكون يوم القيامة، وأما ما دون ذلك فيكون في البرزخ، بل قد يكون قبل ذلك في الدنيا كقوله: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (السجدة: 21). (تيسير الكريم الرحمن، مرجع سابق).

وفي الآية دليل على أن العمل السيئ يعود على الإنسان في الدنيا قبل الآخرة، وكذلك العمل الصالح، قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41)، فيريهم الله تعالى نتائج إفسادهم في البر والبحر والجو وتلويثهم وشيوع المشكلات البيئية والأمراض فيتداركوا أمرهم ويرجعون عن فسادهم وكلمة (بَعْضَ) تبين أن ما يلاقوه في الدنيا هو بعض العذاب بسبب الإفساد وباقي الحساب كاملاً في الآخرة بإذن الله.

كما أن الآية تدل على أن جزاء الدنيا هو عن الأعمال الصالحة مهما كبر غير مجزي والجزاء الأوفى عن الأعمال الصالحة عند الله يوم القيامة، وفي هذا تطمين للمصلحين المظلومين في الدنيا وأن جزاءهم الأوفى عند الله. وعلى المفسدين الذين لا يعاقبون في الدنيا أو يفلتون من العقاب في الدنيا أن يعلموا أن العقاب الأليم في الآخرة بإذن الله. قال تعالى: (لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران: 188).

قال تعالى: (وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران: 189-191).

يخبر الله تعالى عباده (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) وحث عباده على التفكر فيها والتبصر بآياتها وتدبر خلقها بالبحث والدراسة العلمية، وأبهم قوله تعالى (لآيَاتٍ) ولم يقل على المطلب الفلاني إشارة إلى كثرتها وعمومها، وذلك لأن فيها من الآيات العجيبة والمعجزة ما يبهر الناظرين ويقنع المتفكرين والباحثين ويجذب أفئدة الصادقين وينبه العقول النيَّرة على جميع المطالب الإلهية، فأما تفصيل ما اشتملت عليه فلا يمكَّن مخلوقا من أن يحصره ويحيط بماهيته، وفي الجملة مما فيها من العظمة والسعة وانتظام السير والدوران والحركة يدل على عظمة خالقها وعظمة سلطانه وشمول قدرته وما فيها من الإحكام والإتقان وبديع الصنع ولطائف الفعل يدل على نعم الله على عباده ووضعه الأشياء مواضعها وسعة علمه وقدرته، وما فيها من الحقائق والمنافع للخلق يدل على سعة رحمة الله وعموم فضله وشمول بره ووجوب شكره، وكل ذلك يدل على تعلق القلوب بخالقها ومبدعها وبذل الجهد في مرضاته، وألا يشرك به سواه فمن لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وخص الله سبحانه وتعالى بالآيات أولي الألباب، وهم أهل العقول والعلم لأنهم هم المنتفعون بها. ثم وصف أولي الألباب بأنهم (يَذْكُرُونَ اللّهَ) لأنهم هم المنتفعون بها. ثم وصف أولي الألباب بأنهم (يَذْكُرُونَ اللّهَ) في جميع أحوالهم (قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ) وعند دراستهم وبحثهم (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) فيستدلون بها (وبخصائصها المعجزة) على المقصود منها، ودل هذا على أن التفكر عبادة من صفات أولياء الله العارفين، فإذا تفكروا بها عرفوا أن الله لم يخلقها عبثًا فيقولون (ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك) عن كل ما لا يليق بجلالك بالحق وللحق بل خلقتها مشتملة على الحق (فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ). (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، مرجع سابق).

(فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) بأن تعصمنا من السيئات، وتوفقنا للأعمال الصالحات لننال بذلك النجاة من النار.

إنه الإيمان الواعي المبني على الآيات القرآنية والحقائق الكونية بعيدًا عن الخرافات والأساطير والتفسيرات الفاسدة والخاطئة للظواهر الكونية.

إنه العلم والإيمان الممتزجان معًا ولا ينفصمان أو ينفصلان فتكون بذلك الانفصال والفصام عَلْمانية (بفتح العين) إلحادية منكرة لقدرة الله وإبداعه وإنكار البعث أو إنكار صلاحية الشرع للحياة العصرية ولبناء الحضارة وتحقيق السعادة للإنسان كما يدعي العَلْمانيون (بفتح العين)، والعياذ بالله.

وللحديث بقية بإذن الله..

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – مع الصائمين – العدد : ١٣٦٠٣ – الأحد ٢١ يونيو ٢٠١٥ م، الموافق ٤ رمضان ١٤٣٦ هـ