قدَّر الله سبحانه وتعالى وهدى الصحابة رضوان الله عليهم إلى اتخاذ الهجرة النبوية لتكون معلما للتأريخ الإسلامي , فالهجرة هي الحدث الكبير الفاصل بين عهدين إسلاميين:

عهد المستضعفين في الأرض وعصر الممكنين، عصر التابعين المستجيرين بالناس إلى عصر الأئمة والقادة كما قال تعالى: “وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ” (القصص/ 5-6).

ولم يشأ الله سبحانه وتعالى للمسلمين أن يتخذوا يوم ميلاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكما يرغب البعض فعل ذلك في العصر الحديث تأريخاً للمسلمين ، لأن الإسلام دين عالمي، لا يرتبط بميلاد احد أو موته وهذا ما أكده الصديق رضي الله عنه عند موت المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فقال: “من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت”.

النبي صلى الله عليه وآله وسلم مات والله حي باق لا يموت، النبي صلى الله عليه وآله وسلم مات والإسلام لا يموت وهذا ما وقر في أذهان الصحابة رضوان الله عليهم وهم يختارون يوم الهجرة للتأريخ الإسلامي لأنه حدث جماعي عظيم اشترك فيه الرجال والنساء والصغير والكبير والمكي والمدني والغني والفقير ، يوم توحدت فيه المقاصد وتوحدت فيه المشاعر وتوحدت فيه الأمة الإسلامية.

والهجرة لم تأت فجأة أو سرعة أو عشوائية، بل جاءت بعد الهجرة إلى الحبشة، وبعد استنفاد كل سبل التمكين في مكة والطائف وبعد تعثر كل المحاولات للعيش بسلام في مكة، وبعد الحصار الظالم للمسلمين في شعب أبي طالب، وبعد أن نجح المسلمون في مرحلة الاستضعاف وصمودهم أمام الطغاة وقتلهم للمستضعفين وبعد نجاح آل ياسر وبلال وصدعه بأعلى صوته أحد أحد، وخبيب بن عدي مكبلا بقيوده والنساء والصبيان والشبان يدفعونه رضي الله عنه إلى ساحة الموت دفعا لينتقموا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين في شخصه بعد بدر ليؤكد النجاح وقد قطعوا من جسده القطعة تلو القطعة وهم يقولون له: “أتحب أن يكون محمد مكانك وأنت ناج؟” فيقول رضي الله عنه والدماء تنزف منه: والله ما أحب أن أكون آمنا وادعا في أهلي وولدي وان محمدا يؤخذ بشوكة فيلوح المشركون بأيديهم في الفضاء ويتعالى صياحهم أن أقتلوه اقتلوه.

لقد بدأت الهجرة بعد أن ظلت أم سلمة رضي الله عنها في مكة تبكي مدة عام حتى تلحق بالمسلمين وزوجها في المدينة,  الرجال نجحوا، النساء (سمية وأم سلمة مثالا) نجحن.

وقد مهد المصطفى للهجرة مع أهل المدينة في بيعة العقبة بمراحلها المختلفة واختيار الأنصار لنقبائهم وكفلائهم بالاختيار الحر المباشر.

وأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصعب بن عمير ليمهد الناس في المدينة للدعوة واستقبال المهاجرين.

وأعد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم العدة للهجرة وعلف أبوبكر الدابتين واختار الدليل والاطمئنان إلى خروج معظم المسلمين إلى المدينة وتأمين ظهرهم حتى إذا جن جنون المشركين لم ينهالوا عليهم تقتيلا ونهبا وسلبا.

واخذ بكل التدابير العلمية في التمويه والتموين والإعلام والاستخبارات واختيار الطريق ودخل المدينة فاستقبل بالبشر والترحاب وبدأ بناء المسجد وبناء السوق وعقد الصلح مع اليهود ونصارى نجران , وأرسل العيون لتأمين المدينة وآخى بين المهاجرين والأنصار وكتب دستور المدينة للمواطنة بين المسلمين واليهود ، وجيش الجيوش، وعلم المسلمين واختبر صدقهم وقوتهم في بدر وفي ساعة العسرة في غزوة تبوك وتجهيز الجيش والتصدي للمنافقين من أبنائهم قبل الغرباء عنهم، وزرع النخيل بيديه، وأم المسلمين في الصلاة، وأرسل الوفود إلى اليمن وراسل الملوك والرؤساء والسلاطين وأمن الحدود، وحفر الخندق وشرع لهم للدنيا والآخرة واستحث المسلمين على الزرع والصناعة والتجارة وعقد صلح الحديبية وثبت دعائم الدولة في المدينة، ثم ذهب إلى قريش فاتحا منتصرا بعد أن خرج منها مهاجرا سرا، ونادى بأعلى صوته اليوم يوم المرحمة , من دخل بيته فهو آمن، ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن، وأجار من أجارت أم هانئ وقال أجرنا من أجرت يا أم هانئ وصالح حاكم أيلة وأمن الحدود وكل ذلك بفضل الله ثم بفضل الهجرة النبوية المباركة إلى المدينة المنورة، وبعد أن أعد جيلا صادقا قال الله تعالى فيهم: “مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً” (الأحزاب/ 23) وصفهم بالصدق في العهد والوفاء به، والموت في سبيله والثبات عليه وقال الله تعالى فيهم: “مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ” (الفتح/ 29). بعد أن أعد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم هذا الجيل الصادق الثابت على الحق في دار الهجرة انتقل المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم إلى الملكوت الأعلى وفارق الحياة الدنيا وهو مطمئن لصحابته وتلاميذه الذين حملوا الراية من بعده وفتحوا فارس ومصر والشام وأفريقية (تونس) والمغرب والأندلس واليمن ودول الخليج، والبلقان والقدس والقسطنطينية وأسسوا دولة إسلامية قوية هزت عروش الطغاة وأرسل حكام الغرب إلى حكام المسلمين ببناتهم ليتعلمن في قصور أمراء المسلمين وختموا رسائلهم بقولهم خادمكم المطيع، كل هذا جاء بعد الهجرة النبوية وبناء الدولة الإسلامية المدنية بالمدينة المنورة، لذلك فالهجرة منهاج حياة للمسلمين ليخرجوا من ذل التبعية إلى عز الحرية ومن الاستضعاف إلى التمكين، ومن الانكسار إلى الانتصار, ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.

علينا أن نهجر الجهل إلى العلم، العلم الحقيقي النافع الكوني والشرعي الدنيوي والديني التقني والروحي، علينا أن نصمد كما صمدت سمية، ونصدح كما صدح بلال احد احد، لا شرك، ولا عبودية للعباد، ولا تبعية لفتاوى تشترى وتباع ولأشخاص وضعوا أنفسهم فوق البشر يطاعون حتى في معصية الله وفي قبول الانهزام والرضا به.

علينا أن نقول كما قال ربعي بن عامر لرستم قائد جيش الأعداء المدجج بالعدد والعتاد الله بعثنا والله جاء بنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، قالها ربعي في عزة وكرامة وهو يرتدي أرخص الثياب لا يتشبث بالقصور أو الخدم والحشم ولا يركب الطائرات الخاصة من قوت الشعب ولا يذل نفسه لأعداء الله يقول: الله جاء بنا والله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ذل الأديان الوضعية والباطلة إلى عز الإسلام حيث المساواة بين العباد وإقامة الحد على الشريف قبل الضعيف، ويقول الحاكم أصابت امرأة وأخطأ أمير، وبنينا الجامعات والمدارس والمصحات والربط والمحاضر وإيقاف الأوقاف على الهررة (القطط) والطير، وتأمين الطريق، واستقبال الضيف ومعالجة المرضى ومواساتهم ونسخ الكتب وتقدير العلم والعلماء، كل ذلك جاء بفضل الله ثم بفضل الهجرة النبوية المطهرة وبناء الدولة الإسلامية القائمة على العدل والشورى والحرية وكان من نتائجها أن قال الأمير لابن القبطي (المصري) أمام أبيه اضرب ابن الأكرمين ولو رابك شيء فاكتب إلينا.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد (11984) – الجمعة 14 يناير 2011م  الموافق 10 صفر 1432هـ