يظن الجاهلون للتجمع الإيماني لأصحاب الكهف أنهم رمز التخلف الزماني، فكل قديم عندهم تخلف، وكل جديد عندهم تقدم، والحقيقة القرآنية أن التخلف هو التخلف السلوكي الأخلاقي، أما التخلف الزماني والمكاني فليس بتخلف، فالحضارة الإنسانية حضارة تراكمية بني جديدها على قديمها، وإذا بُني الجديد على قاعدة متخلفة فهو متخلف.

– التخلف والتقدم يقاس بمعيار الأخلاق الإنسانية ومدى طاعة الانسان لخالقه الذي خلقه ويعلم ما يُصلح حياته أو يفسدها فالعري ليس بتقدم، وهو رمز البدائية ومع ذلك نجد المرأة المدعية الحداثة تتعرى، والسكر والعربدة ليس بتقدم ومع ذلك نجد الرجل الأوروبي سكيرا وأكثر من عربد في العالم وهو صانع أسلحة الدمار الشامل.

– وحتى نفهم أن أصحاب الكهف أو أهل الكهف كانوا أفضل أخلاقًا وتقدمًا نرى ماذا قال رب العالمين عنهم «إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى» الكهف:13.

– والفتاء: هو الشباب، واللفظ يحتمل أمرين أو يجمع بينهما: فتوة السن: أي أنهم شباب في مقتبل العمر، وفي هذا إشارة إلى أن الإيمان الحق (والفهم والعلم) ليس حكرًا على الكبار وأن مقاومة (التخلف) والكفر ينهض بها الشباب كما ينهض بها الكبار، وفتوة الإيمان تعطي الحافز والقوة على التمسك بالحق (والفعالية في التغيير) ومواجهة الباطل.

– القضية الأساسية لهؤلاء الفتية -كما صورها القرآن الكريم- هي التوحيد ونبذ الآلهة المتعددة التي كان يعبدها قومهم (جهلاً) وافتراءً وكذبًا وجاهلية «هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا» الكهف:13، (معجم الأعلام، قاموس القرآن الكريم (مرجع سابق) (ص 141).

– لما ذكروا ما مَنَّ الله به عليهم من الإيمان والهدى والتقوى، التفتوا إلى ما كان عليه قومهم من اتخاذ الآلهة من دون الله فمقتوا فعلهم، وبينوا أنهم ليسوا على يقين من أمرهم، بل هم في غاية الجهل والضلال «لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ» أي: بحجة وبرهان على ما هم عليه من الباطل ولا يستطيعون إلى ذلك، وهذا افتراء منهم على الله وكذب عليه وهذا أعظم الظلم ولهذا قالوا: «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا»، تيسير الكريم الرحمن مرجع سابق صفحة 542.

– هذا سلوك علمي متحضر أنهم طلبوا البرهان والدليل على فعلهم، ولما عجزوا بينوا أن هذا افتراء على الله فكل ما في الكون يشهد أن الخالق واحد والمبدر واحد والمبدع واحد وهو عليم خبير لطيف، وأثبت العلم الحديث أن هناك روابط بين أشياء حيوية في كائنات حية متعددة، فجميع الكائنات الحية بها جزيء وراثي بتركيب أساس واحد مكون من مركبات كيمياوية واحدة بتركيب رئيسي واحد وأن الاختلافات لا تنفي الأصل فهناك تشابه كبير بين بخضور النبات الذي تتوقف عليه حياته ويحمور الحيوان الذي يتوقف عليه حياته، وسيتوكروم الكائنات الحية الدقيقة التي يتوقف عليها حياتها، فالخالق واحد والصانع واحد مبدع عليم خبير- هؤلاء الفتية طلبوا براهين علمية على سلوك قومهم وهذا قمة العلم وقمة التحضر وقمة العقل السليم، التخلف الزماني غير موجود فوصفهم بالتخلف هو عين التخلف.

– التجمع الكفري الإلحادي تجمع شعبي مضلل وجاهل وغوغائي يقوده مظللون جاهلون غوغائيون، لم يجد الشباب فائدة من مواجهة الكثرة العددية الهائجة فكان القرار الجماعي «وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إلى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا» الكهف:13.

– اعتزل هؤلاء الفتية قومهم، فأووا إلى الكهف وفيه أحاطت به عناية الخالق ونشر عليهم رحمته (وهيأ لهم أسباب راحتهم) فضرب على آذانهم (ومصدر ايقاظهم وقلقهم) فناموا في كهفهم وهيأ لهم أسباب الحماية البيئية الخارجية فحماهم من تأثير الحرارة والأشعة الشمسية المضرة بهم وحماهم من قُرَحْ الفراش ورعى أجسادهم بتقلبها وتهويتها ذات اليمين وذات الشمال، وألقى عليهم المهابة وحماهم من عبث العابثين «لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا» الكهف:18. فمن يفر منهم يظل خائفًا ومرعوبًا فلا يفكر في العودة إليهم أبدًا.

– وفي هذا إشارة إلى أن من يصدق الله فإن الله لا يتخلى عنه أبدًا له من أمره «وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا» الكهف: 16، «مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ» الكهف: 17، دروس إيمانية نتعلمها من الدرس العلمي الميداني الإجرائي الذي قام به هذا التجمع الشبابي في مواجهة التجمع الشعبي الجاهلي.

– ترك الناس الدروس الإيمانية العلمية وانشغلوا بالأمور الجانبية فذهبوا يبحثون عن عددهم ويتمارون فيه، ويصفون في كهفهم وينشغلون به، وبكلبهم ووجوده معهم وإيمانه وكفره، وهذه طبيعة الجهلاء، والفلسفة العقلية الخاوية من القاعدة العلمية.

– هذا تجمع شبابي رافض للجهل والخرافة حصَّنه الله بالمعجزات الربانية وبين الدروس التي يجب أن نشتغل بها في قصتهم «فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا» الكهف: 22، وعلمنا كيف نبتعد عن الجهل العقيم والأقوال التي لا يترتب عليها الأعمال النافعة.

– إن وصف أي تجمع عصري بأنهم من أصحاب الكهف أو من أهل الكهف هو مدح وشرف لا يدانيه شرف «إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى» الكهف:13، «وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَّقَدْ قُلْنَا إذا شَطَطًا» الكهف:13، «إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أو يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إذا أَبَدًا» الكهف:20. فالعودة إلى الجاهلية والعودة إلى الكفر والعودة إلى الشرك والعودة إلى تجمع القطيع الذي لا برهان حقيقي على سلوكه هو الخسران الدائم «وَلَن تُفْلِحُوا إذا أَبَدًا» الكهف:20.

– من هذه القصة وهذا التجمع الشبابي المؤمن نفهم أن:

– الفتية هم دعامة التغيير.

– التوحيد هو القضية الكبرى للإنسان.

 – السير مع القطيع هو سلوك الجاهلين.

– الأخذ بالعلم والبرهان والأساليب العلمية من صفات المؤمنين المتقين.

 – الجدل والانشغال بالقضايا غير المهمة من صفات الجاهلين.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٥٣٧٩ – الجمعة ٠١ مايو ٢٠٢٠ م، الموافق ٠٨ رمضان ١٤٤١هـ