تعلمت أمتنا الإسلامية فقه الأحكام والمعاملات وأنشأ علماؤنا المذاهب الفقهية لخدمة ذلك، وسأل الناس ويسألون عن الأحكام والمعاملات، والحلال والحرام، وعلى قدر اهتمامهم بفقه الأحكام والمعاملات أهملوا وحدة الأمة ومصير الأمة وسلامة الأمة والمحافظة على حيويتها وقوتها وهيبتها.

وقد ضرب المصطفى صلى الله عليه وسلم مثلا تربويا فاعلا في فقه الأمة الواحدة والمصير الواحد فقال صلى الله عليه وسلم: (مثل القائم على حدود الله والمدهن فيها كمثل قوم استهموا على سفينة في البحر، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها يصعدون فيستقون الماء فيصبونه على الذين في أعلاها، فقال الذين في أعلاها: لا ندعكم تصعدون فتؤذونا، فقال الذين في أسفلها: فإننا ننقبها من أسفلها فنستقي، فإن أخذوا على أيديهم فمنعوهم نجوا جميعا، وإن تركوهم غرقوا جميعا) أخرجه البخاري.

  هذا مثل رائع للتعايش الوطني والوحدة الوطنية والمصير الواحد والمصالح المشتركة فهؤلاء قوم في البحر يحيك بهم الماء من خمس جوانب وقد اقتسموا السفينة قسمين، قسم أعلاها يتمتع بالحصول على الماء بسهولة، بمجرد إدلاء دلو في الماء، والقسم السفلي مضطر إلى الصعود للحصول على الماء وفي هذا لإقلاق للقسم العلوي، وقد يسبب لهم بعض الضرر، ففكر البعض في القسم العلوي في مصالحهم الشخصية وقرروا منع هؤلاء من المرور على قسمهم العلوي، وهنا قرر أصحاب القسم السفلي ثقب ثقب أسفل السفينة للحصول على الماء من دون المرور على القسم العلوي، وتحتدم الخلاف (فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا) أي غرقوا جميعا والمعنى: (إن لم يردعوهم عن حرق السفينة غرق جميع من بالسفينة، وفيه إشارة إلى عدم إقامة شريعة الله في المجتمع المسلم وإنزال العقاب على المخالفين لأوامر الله فيه فساد للأمة وهلاكها في الدنيا والآخرة) (الحكم والأمثال النبوية – مرجع سابق ص 235).

  كما أن تعذيب الخاصة يقع حينما يسكت المجتمع عن ارتكاب المنكر سكوت الراضي أو غير المكترث، أما سكوت الناس لضرورة مع إنكار القلب ما يفعله أصحاب المعاصي فهو الذي يمكن القول فيه إن من أنكر بقلبه فقد برأ ذمته، ويكون العذاب الواقع عليه في الدنيا تكفيرا لذنوبه في الآخرة أو لرفع درجته (المرجع السابق).

  وفي هذا الحديث من الهدي النبوي الذي يجب علينا تعليمه وتعلمه وفقهه وفهمه أنه فقه السفينة الواحدة التي نركبها جميعا ونجاتنا مرتبطة بالحفاظ على هذه السفينة وهلاكنا حتمي بهلاك هذه السفينة.

  وأهم ما يجب أن نتعلمه في فقه السفينة وحديثها ما يلي:

  نفهم من الحديث أن التباين سنة من سنن الله في الكون فهناك العلوي وهناك السفلي وهناك الممتلك وهناك غير الممتلك وهكذا خلق الله الناس مختلفين ورغم هذا الاختلاف فهم في سفينة واحدة ومصيرهم واحد.

  كما نفهم من حديث السفينة أن حياة الناس رغم تباينها متكاملة فالله سبحانه وتعالى قسم الأرزاق وعناصر القوة وعناصر الضعف على كل العباد، حتى لا يستغني أحد عن أحد، ولا جماعة عن جماعة، ولا بيئة عن بيئة ولا بلد عن بلد ولا قارة عن قارة، الكل يعيش في سفينة الأرض، وخالق هذه السفينة عادل حكيم عزيز، قسم الأرزاق على عباده بالعدل والحكمة لكي يتعايشوا ويتعارفوا كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ{13}) (الحجرات/13).

هذا منهاج الله في السفينة الواحدة والمصير الواحد والأمة الواحدة.

  ومن فقه السفينة أن علينا التفاهم والتكامل في المصالح والواجبات، التفاهم الاقتصادي في نعم الله علينا، والتفاهم السياسي بالبعد عن الحروب والاستعماري والتطهير العرقي والاستعلاء على الآخرين بالجنس واللون والعرق والجاه والمال، وعلينا لتفاهم الديني (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) (الكهف/29)، وقال تعالى: (لست عليهم بمسيطر) فلكل دينه فلا يعتدي على دين الآخرين، ولكل مذهبه فلا يحقر مذهب الآخرين ولا يحاول هدمه ولكل معتقداته زينها الله له (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ) (الأنعام /108).

  وبذلك نحدث تعايشا وطنيا بلا فتن طائفية أو مذهبية أو قبلية أو عرقية، تعايشا لا يلغي الاختلافات ولكن بفضي إلى التفاهم والعيش بسلام.

  ومن فقه السفينة أن الاختلافات المفضية للفتنة مهلكة والله تعالى يقول: (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (الأنفال/46)، والحل المطروح لفض المنازعات بين المسلمين في الآية نفسها (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ) (الأنفال/46)، فالمرجعية في فض النزاع بين المسلمين العمل بكتاب الله وسنة نبيه الصحيحة (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ) وهذه الطاعة وهذا التعايش يحتاجان إلى الإيثار والصبر لذلك قال الله تعالى في الآية نفسها (وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ{46}) (الأنفال /46).

  وعلى المسلمين تحكيم أوامر الله في كل خلاف وأن نرحب بحكم الله ونسلم له كما قال تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً{65}) (النساء/65).

  وفي التعامل مع غير المسلمين في البلد نفسه يقول الله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ{8}) (الممتحنة/8).

  فما داموا لم يقاتلونا في الدين ولم يحاولوا إخراجنا من ديننا وديارنا فالمعاملة بيننا وبينهم أسمى معاملة (أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) والبر يكون للوالدين والأقربين والإحسان يكون للجميع ماداموا مسالمين وهذه أسمى علاقة توجد بين مختلفين في الدين والمذهب والعقيدة، وهذا جزء مهم من فقه السفينة الواحدة.

  ثم تأتي ضوابط الحفاظ على وحدة سكان السفينة والحفاظ على سلامة السفينة نفسها ومقدرتها على الإبحار بمنع الفساد والمفسدين فيها (فإن أخذوا على أيديهم فمنعوهم نجوا جميعا وإن تركوهم غرقوا جميعا) فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بضوابطه الشرعية بأن يكون المنكر حالا وواقعا ومحققا لا متوقعا في المستقبل وأن يكون ظاهرا (من رأى منكم منكرا) وألا يزال المنكر بمنكر أكبر منه، كأن تؤدي إزالته إلى الفتنة والتنازع والشقاق والفشل فكما أن هناك فقه السفينة الواحدة هناك فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو مفصل في كتب كثيرة في المكتبة العربية الإسلامية.

  ومن الشروط الضرورية لنجاح الأمة الإسلامية والحفاظ على هويتها ووحدتها وسفينتها ما كتبه الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه الأمة الإسلامية حقيقة لا وهم وملخصه: تحديد الهوية وأساس الانتماء فلا هوية لها بغير الإسلام، ولا انتماء لها إلى غير نسبه فهو محور حياتها وروح وجودها، وسر بقائها وصانع حضارتها ومكون وحدتها مع تحديد المرجعية العليا لحياتها العقائدية والتشريعية والثقافية والاجتماعية التي يحتكم إليها الناس إذا اختلفوا ويرجعون إليها إذا شردوا أو انحرفوا، ومادامت الأمة مسلمة فلا مرجع لها بغير الإسلام، كما على الأمة أن تجسد إسلامها في سلوكها وأخلاقها وأعمالها مع أبنائها ومع الآخرين وأول هذه الأخلاق وهذا السلوك التجرد لله، والانتصار على شهوات النفس ونزعات العصبية الجاهلية، وثانيها أن تخرج الأمة من العجز والكسل إلى الإنتاج والعمل، فإحسان العمل فريضة كتبها الله على المؤمنين كما كتب الصيام والصلاة (إن الله يحب الإحسان في كل شيء) رواه مسلم، و(إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه) رواه البيهقي وحسنه في صحيح الجامع.

  ما أحوجنا إلى تعلم فقه السفينة الواحدة، وفقه الأمة الواحدة وفقه الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى!

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد (11564) – الجمعة 3 ذي الحجة 1430 هـ – 20 نوفمبر 2009م