في منظر عجيب ومكرر يجلس المئات من المدعويين أمام الداعية يلقنهم ما يحفظه ويكرره في كل درس، وهكذا عودنا الناس أن يكونوا مستقبلين غير فاعيلن، عليهم أن يستمعوا ويحفظوا وينفذوا، ونفس المشهد تجده في حلقات العلم، فالمرسل يرسل طوال الحصة، والمستقبل عليه أن يستقبل، وبذلك تعود الناس أن يكونوا بين أيادي شيوخهم ومعلميهم كالميت بين يدي المغسّل، وبذلك تعطل العقل عندنا وتعود المتعلم على السمع والطاعة من دون إعمال للعقل.

والشيء نفسه نجده في مدارسنا، فالمعلم عليه أن يسرد الدرس ويكرره على الطلاب، وهم يستقبلون في هدوء وصمت، وكلما كان الصف هادئا قدّرت إدارة المدرسة هذا المعلم الذي يكرر الدرس بذات الترتيب على طلابه. وقد ترتب على هذه المنهجية التعليمية التلقينية أن فقد طلابنا أسلوب الحوار والنقاش. وقد حاولت مرارا أن أخرج بعض المعلمين وبعض الطلاب بعيدا عن السرد والتلقين فوجدوا صعوبة بالغة في إتباع أسلوب الحوار والمناقشة وتمحيص الآراء.

  هذا الأسلوب في الدعوة وفي التدريس والتعليم والتعلم عطل العقل عندنا. والأسلوب نفسه نتبعه مع أبنائنا، فلا حوار ولا نقاش ولا تمحيص للأفكار. وانتقل هذا الأسلوب البليد إلى مؤسساتنا، فالموظف المناقش والمحاور هو موظف مشاغب، أما الموظف المطيع المنفذ من دون إعمال عقل فهو الموظف الحسن السيرة والسلوك المطيع الهادئ.

  عندما أرادت بعض الدول إنشاء مشاريع عملاقة أحجم الناس عن إبداء آرائهم وبيان أوجه القصور والخطورة في المشروع، ومن أبدى رأيه وخالف رأي المسئول وضع في القائمة السوداء .. قائمة غير المطيعين، إذ أن الأسلوب السائد هو أن عليك تنفيذ الأوامر وإن كانت خاطئة ثم بعد ذلك تعترض!.. وكم من جيوش هزمت بسبب هذا المبدأ الخطير، وكم من جيوش وضعت لجنودها صورة رجل على فمه قفل، وأصابعه في أذنيهن وعلى عينه غمامة، ومكتوب تحتها: (لا أرى .. لا أسمع .. لا أتكلم!) .. والعجيب أن الحمار يسمع ويرى وله صوت يعبر به عن حاجته! .. وبذلك فشلت المشاريع وهزمت الجيوش وخربت بعض البلدان بهذا المبدأ الخطير.

  عندما نزل المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ في منزل غير استراتيجي في بدر أشار الحباب بن المنذر على رسول الله ت صلى الله عليه وسلم ـ بتغيير موقع الجيش، واستجاب المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال: (لقد أشرت بالرأي) وغير موقع الجيش. والأسلوب نفسه حدث عند حصار حصن خيبر.

  الحوار والنقاش والتشاور من المبادئ الأساسية في الشريعة الإسلامية، فقد حاور الله سبحانه وتعالى الملائكة، وحاور آدم ـ عليه السلام ـ، وحاور إبليس، والمرأة حاورت وجادلت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأيد الله سبحانه وتعالى رأيها وسمع حوارها وجدالها وأنصفها.

  السبب الرئيس في أن نوابنا يصرخون ويتشنجون وصورهم في المناقشات البرلمانية تبين ذلك هو أنهم لم يتعودوا الحوار والنقاش في المدرسة والمسجد والدروس وفي البيت وفي العمل، لذلك نحن فقط نصرخ ونتشنج ونختلف ونتنازع ونفشل ونتقاتل.

  على الدعاة تغيير أسلوب الصوت المرتفع والتلقين المكرر، وفتح باب الحوار مع المدعوين، وهذا يتطلب الكثير من العلم والتدريب، وهذا دور المسئولين عن إعداد الدعاة.

  علينا أن نصمم مناهجنا ونعدها ليكون الحوار والنقاش والتفكير هو المنحنى الرئيس في تنفيذ المناهج، وعلينا بالتقويم الإبداعي والأسئلة الحوارية التي تطلب من الدارس التفكير والحوار.

  لقد شاهدت مدارس المبدعين والفائقين في الهند تعتمد على الحوار والحلول العقلية للمسائل الحسابية من دون استخدام الأوراق والأقلام والسبورة. وأتذكر أنه في ستينات القرن العشرين جاءنا سؤال اختياري واحد في أحد الاختبارات عن لماذا نعلّم؟! والبديل الإجابة عن ثلاثة أسئلة أخرى مكرورة، ولم يجب عن سؤال (لماذا نعلم؟!) إلا طالب واحد وكتب فيه ثلاث كراسات إجابة وحصل على امتياز في أصول التربية، وباقي الطلاب ما بين جيد ومقبول.

  الإبداع ليس دروسا نظرية في الإبداع والمبدعين.. الإبداع منهاج حياة يتبعه الآباء والمربون، وهذا ما يميز الدول المتقدمة علميا عن الدول المتخلفة، فمتى نتعلم ذلك ونكف عن تعطيل عقولنا؟!

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليجمنتدى الجمعة – العدد (١١٣٨٩) الجمعة ٥ جمادى الآخرة ١٤٣٠ هـ – ٢٩ مايو ٢٠٠٩م.