الحياة الحضارية السعيدة هي الحياة التي تحقق الطمأنينة والأمن والأمان للإنسان، وقد ثبت بالدراسات العلمية أن الإنسان في الدول الأكثر رفاهية أكثر قلقًا واضطرابًا نفسيًا، والبعض منهم سئم الحياة التي يتوافر لهم فيها كل المتطلبات المادية، لذلك ترتفع نسبة الانتحار في السويد وهي من أعلى دول العالم في الدخل الفردي.

وقد بين القرآن الكريم أن الحياة الحقيقية والهنية والسعيدة تكمن في طاعة الله وامتثال أوامره ونواهيه، قال تعالى «قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى(123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)» (طه: 123-127) .

وقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)» (الأنفال: 24).

قال ابن القيم رحمه الله في الفوائد: إن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ولرسوله، فمن لم تحصل له هذه الاستجابة فلا حياة (إنسانية) له، وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل الحيوان فمظاهر الحياة بينهما (فمِن تنفس وأكل وحركة وتوالد وإحساس.. مشتركة بينه وبين الحيوان).

أما الحياة الحقيقية هي حياة من استجاب لله ورسوله ظاهرًا وباطنًا (بدنًا وعقلاً وروحًا)، فهؤلاء هم الأحياء، وإن ماتوا، وغيرهم أموات، وإن كانوا أحياء الأبدان.

ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن كل ما دعا إليه فيه الحياة (الحقيقية) فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة، وفيه من الحياة بقدر ما استجاب للرسول صلى الله عليه وسلم، قال مجاهد (لما يحييكم) يعني: للحق، وقال قتادة: هو هذا القرآن فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة، وقال السدي: هو الإسلام، أحياهم به بعد موتهم بالكفر، قال ابن إسحاق وعروة ابن الزبير – واللفظ له (لما يحييكم) يعني: للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل وقواكم بها بعد الضعف، ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم، وهذه كلها عبارات عن الحقيقة واحدة، وهي القيام بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم (عن ربه) ظاهرًا وباطنًا، قال الواحدي: والأكثرون على معنى قوله (لما يحييكم) هو الجهاد، وهو قول ابن إسحاق واختيار أكثر أهل المعاني .

قال الفراء: إذا دعاكم إلى إحياء أمركم بجهاد عدوكم، يريد أن أمرهم إنما يقوى بالحرب والجهاد، فلو تركوا الجهاد ضعف أمرهم واجترأ عليهم عدوهم (وأذلهم وقتلهم).

قال ابن القيم: الجهاد من أعظم ما يحييهم به (الله) في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة.

أما في الدنيا فإن قوتهم وقهرهم لعدوهم بالجهاد.

وإنما في البرزخ: فقد قال تعالى: «وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» (آل عمران: 169).

وأما في الآخرة: فإن حظ المجاهدين والشهداء في حياتها ونعيمها أعظم من حظ غيرهم، ولهذا قال ابن قتيبة: لما يحييكم يعني الشهادة وقال بعض المفسرين لما يحييكم يعني الجنة فإنها دار الحيوان (الحياة)، وفيها الحياة الدائمة الطيبة. حكاه أبو علي الجرجاني.

والآية تتناول هذا كله.

فإن الإيمان والإسلام والقرآن والجهاد يحيي القلوب الحياة الطيبة، وكمال الحياة في الجنة، والرسول صلى الله عليه وسلم داع إلى الحياة في الدنيا والآخرة، والإنسان مضطر إلى نوعين من الحياة، حياة بدنية يدرك بها النافع والضار ويؤثر ما ينفعه على ما يضره والضعف بحسب ذلك.

ولذلك كانت حياة المريض والمحزن وصاحب الهم والغم والخوف والفقر والذل دون حياة من هو معافى من ذلك.

وحياة قلبه وروحه: التي بها يميز بين الحق والباطل، والغي والرشد، والهدى والضلال، فيختار الحق على ضده، فتفيده هذه الحياة قوة التمييز بين النافع والضار في العلوم والإرادات والأعمال، وتفيده قوة الإيمان والإرادة والحب للحق، وقوة البغض والكراهية للباطل، فشعوره ونصرته بحسب نصيبه من هذه الحياة.

كما أن البدن الحي يكون شعوره وإحساسه بالنافع والمؤلم أتم، ويكون ميله إلى النافع ونصرته عن المؤلم أعظم، فهذا بحسب حياة البدن، وذاك بحسب حياة القلب.

فإذا بطلت حياته بطل تمييزه وإن كان له نوع تمييز لم يكن فيه قوة يؤثر بها النافع على الضار.

كما أن الإنسان لا حياة له حتى ينفخ فيه الملك الذي هو رسول الله من روحه فيصير حيًا بذلك النفخ.

قال تعالى: «أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ» (الأنعام: 122). فجمع له بين النور والحياة، كما جمع لمن أعرض عن كتابه بين الموت والظلمة.

وقوله: «وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ» يتضمن أمورًا:

أحدها: أنه يمشي بين الناس بالنور، وهم في الظلمة، فمثله ومثلهم كمثل قوم أظلم عليهم الليل، فضلوا ولم يهتدوا للطريق وآخر معه نور يمشي فيه في الطريق ويراها ويرى ما يحذره فيها.

وثانيها: أنه يمشي فيهم بنوره فهم يقبسون فيه لحاجتهم إلى النور.

وثالثها: أنه يمشي بنوره يوم القيامة على الصراط إذا بقى أهل الشرك والنفاق في ظلمات شركهم ونفاقهم.

«التفسير القيم، ابن القيم، دار الرائد العربي، بيروت: لبنان (ط1) (ص: 288) (1988م)».

وهكذا تفعل التربية الإيمانية الحضارية في الإنسان تحوله من حيوان يتمتع ويأكل كما تأكل الأنعام والنار مثواه، وحياته الدنيا حياة الضنك والكآبة والشقاء حتى لو عاش في القصور وركب الطائرات ولبس أفخر الثياب وامتلك أندر السيارات.

التربية الإيمانية الحضارية هي التربية الهادفة إلى إنسان معمر للكون بنواميس الله في الخلق.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – الملحق الإسلامي – العدد : ١٣٦٥٧ – الجمعة ١٤ أغسطس ٢٠١٥ م، الموافق ٢٩ شوال ١٤٣٦ هـ