بعيدا عن النظريات والفرضيات الرياضية والفلسفية والنصوص الدينية نحن نعلم أن التفاعل الكيميائي المنظم والمحكوم علميا يؤدي حتما إلى منتجات نهائية ومخرجات تتوافق مع المدخلات والمتفاعلات الموضوعة لإحداث التفاعل، ولكل فعل رد فعل مساوٍ له في القوة مضاد له في الاتجاه، وكل هذا يقول أن النتائج مترتبة على المسببات.

وإذا كانت الموجودات في الحياة الدنيا منظمة فلابد أن تكون نتائجها منظمة.

فالشمس تشرق كل يوم بانتظام دقيق على مدار العام، وتعطي النتائج نفسها عندما تتسلط على المخلوقات الأرضية، والقمر يسير في منازل محددة ومعلومة، والجذر يتجه (عادة) إلى الأرض لتثبيت النبات وامتصاص الماء والمغذيات من التربة، والساق تتجه (عادة) إلى الهواء لوضع الأوراق والبراعم والأزهار والثمار في الوضع الأمثل للبناء الضوئي والقيام بالوظيفة المعلومة لكل من أجزاء النبات.والنبات ينمو ويتكاثر في وجود العوامل الخارجية والداخلية المؤدية إلى ذلك.

نخلص من هذه الأمثلة أن الحياة الدنيا في الأصل منظمة ومرتبة وتعطي النتائج نفسها في الظروف عينها.

ومادامت الحياة الدنيا منظمة هذا التنظيم البديع فلابد أن تؤدي إلى نتائج منظمة وبديعة فالذي يقتل يحاسب بالقانون البشري بالقتل أو الحرمان من الاستمتاع بالحياة الدنيا، والذي يجتهد في الدراسة يتفوق في النتيجة، والذي يصلح للوظيفة المتقدم إليها يجب أن يعين فيها، هذا هو القانون الدنيوي البعيد عن الانحرافات.

ولكن ماذا يفعل الطالب الذكي المجتهد عندما يحصل على الدرجات العليا ولا يعين في وظيفة معيد في الجامعة مثلا لان ابن مدير الجامعة عين في هذه الوظيفة رغم عدم كفاءته؟

وماذا يفعل الإنسان الذي جاءه الجبابرة ودخلوا عليه بيته وطردوه منه كما هو الحال في فلسطين ولم يجد من يعيد له حقه المسلوب؟

وماذا تفعل الزوجة المخلصة التي شاء الله لها أن تتزوج هذا العربيد السكير الذي حرمها من بهجة الحياة والاستقرار الأسري؟

وماذا يفعل الموظف الذي يكد ويتعب ولا يترقى وغيره يترقى لوجود المحسوبية في العمل؟

وماذا يفعل الفقير الذي يبذل قصارى جهده في العمل ولا يحصل على متطلبات الحياة الأساسية وغيره لا يبذل جهدا ويعيش في رغد من العيش؟

وماذا تفعل الخادمة التي ظلمها مخدومها ولم يعطها حقها ولم تستطع أن تقاضيه وتأخذ حقها منه؟

وماذا يفعل الخصم السياسي الذي سيق إلى حبل المشنقة لأنه يعارض النظام السياسي المستبد أو النظام العالمي الجديد؟

الذي نراه أن كل هؤلاء يموتون مظلومين من دون أن يأخذوا حقهم في الحياة الدنيا، سُرقوا، ونهبوا، وقتلوا، وماتوا، ولم ينصفوا في الحياة الدنيا.

وإذا كانت الحياة الدنيا منظمة والنتائج متوقفة على الأسباب والمتفاعلات فلماذا لم تطبق هذه القوانين الدنيوية عليهم؟

العقل يقول والمنطق يحتم أن تكون هناك محاسبة فيما بعد الحياة الدنيا حتى يأخذ المظلوم حقه وفق حتمية التنظيم والتقدير في الحياة الدنيا.

ولذلك الذي خلق الحياة الدنيا منظمة وأوجدها وفق تقدير وقوانين علمية مقدرة ودقيقة جعل بعد الحياة الدنيا الحياة الآخرة، وجعل في الآخرة الحساب الدقيق، والشهود الصادقين والقضاء العادل، والقوة المنفذة للقانون وأعطى كل إنسان حقه في المطالبة بحقه، وحقه في الدفاع عن نفسه، والبينة على فعله فكان يوم الفصل في كل هذا كما قال تعالى: ” إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً{17} يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً{18} ” (النبأ /17 – 18).

والذي يفصل بين العباد هو الحكم العدل سبحانه وتعالى: ” إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ” (الحج/ 17).

ولا محسوبية ولا انساب يوم القيامة قال تعالى: “لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ ” (الممتحنة /3).

ويقول الله تعالى لهم ” هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ” (الصافات/ 21).

والكل يود فداء نفسه بكل ما كان يمتلك في الدنيا ” يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ{11} وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ{12} وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ{13} وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ{14} ” (المعارج/ 11 – 14).

والشهود قد شهدوا الوقائع وسجلوها كما قال تعالى: “حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {20} وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ{21} ” (فصلت/ 20-21).

المحاكمة عادلة، والشهود عدول، والحكم العدل، والكل يشهد على هذه القضايا فهي قضايا علنية تشهدها الخلائق جميعا والعلنية سمة الأحكام العادلة.

وتطبيق هذه الأحكام فوري التنفيذ قال تعالى: ” وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ{70} وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً ” (الزمر/70-71)، وقال تعالى: ” قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ{72} ” (الزمر/72).

وقال تعالى: ” وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ{73} وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ{74}” (الزمر /73 – 74).

هذه هي النتيجة الحتمية العقلية والنتيجة الشرعية التي يجب أن تؤدي إليها هذه الحياة الدنيا بما فيها من قوانين منظمة ومقدرة ودقيقة.

   أما الذين ينكرون البعث والحساب فهم يريدون الحياة الدنيا همجية يقتلون فيها ويسرقون، ويزنون، ويظلمون ويفسدون ويتمتعون بالحرام ولا يحاسبون فمن ذا الذي يحاسبهم والقوة بيدهم، والسلطان سلطانهم والكلمة كلمتهم؟ وعلى الضعفاء والفقراء والمساكين والمظلومين القبول بالأمر الواقع.

فهم يمتلكون الطائرات والدبابات والمواد الفتاكة ويطردون المواطنين من أوطانهم ويقتلون أبناءهم ولا رادع لهم فمجلس الأمن معهم، والفيتو معهم، وعلى الضعفاء الرضا بالأمر الدنيوي الواقع.

من قتل الناس في اسبانيا وفلسطين والعراق والبوسنة والهرسك وليبيا يجلس الآن متمتعا بالثروات الهائلة ولا يعبأ بالثكالى والأيتام والمقطعة أطرافهم. هذا منطق البقاء للأقوى وفق شريعة البندقية التي أبادت الهنود الحمر والفلسطينيين وسرقت ديارهم وأموالهم.

هذا منطق المستعمر الذي نهب الثروات وبنى حضارته على ثروات الفقراء في إفريقيا وآسيا وأمريكا الشمالية والجنوبية.

هذا منطق الذين سخروا شعوبهم واستعبدوهم وأذلوهم، أما منطق الأنبياء والرسل والعدالة الإلهية كما قال تعالى: “فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ{7} وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ{8}” (الزلزلة /7-8) وقوله تعالى: “إن اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرةٍ” (النساء/ 40).

هذا هو منطق المنطق والعقل السليم والعدل الإلهي بين العباد.

لذلك فالعقل والمنطق يوجبان وجود الجنة والنار فهذه حتمية عقلية ومنطقية والحمد لله الذي جعلها حقيقة إلهية قرآنية شرعية.

أما منطق الدارونية والعَلمانية (بفتح العين) والعشوائية فلا توجب هذا لأنه يتنافى مع مطامعهم الدنيوية الاستعمارية الفاسدة.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – مع الصائمين – العدد(11835) – الأربعاء 18 أغسطس 2010م – 8 رمضان 1431هـ