(العقل قوة في نفس الإنسان يستطيع عن طريقها إدراك العلوم، وتحصيل المعارف وله عدة معاني مختلفة عند العلماء والحكماء والعامة , والذي نقصده هنا هو القوة الإدراكية التي تلي قوة الحواس في مجال يفوق مجال الحواس، ودون مجال الوحي الإلهي الذي يأتي عن طريق الرسل لهداية العقل الإنساني إلى سواء السبيل، ويجنبه الزلل والضلال ويخرجه من الظلمات إلى النور).المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، يوسف حامد العالم، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، (ط2) (ص328) (1994م(.

يقول صاحب العقائد النسفية: أسباب العلم للخلق ثلاثة: الحواس السليمة، والخبر الصادق والعقل السليم، والمراد بالحواس الخمس: السمع، والبصر والشم، والذوق واللمس، ولكل خاصة منها مجال لا تتعداه: بمعنى أن كل واحدة وضعت وخصصت لإدراك معين لا تتعداه ولا تنفع في غيره (المرجع السابق ص326).

وجعل الله سبحانه وتعالى طريقين ليصل بهما الإنسان إلى معرفة حقائق الوجود، احدهما: العقل: الذي خلقه (الله تعالى) فيه وجعله قوة نامية وبه يدرك حقائق العالم المحسوس أما الطريق الثاني: فقد جعله الله لإدراك حقائق عالم الغيب، وما وراء عالم الشهادة مما لا يستطيع العقل وحده إدراكه لأنه من طبيعة مختلفة عن طبيعته وذلك لئلا يدع (الله تعالى) الإنسان جاهلا غافلا عما وراء هذا الكون (المرجع السابق ص228).

   وقد سلكت الآيات القرآنية المسلكين السابقين في هداية الإنسان فجاءته الآيات الكونية القرآنية ليهتدي بها ويعقل، وجاءته آيات الغيب لتعلمه ما يجب أن يعلمه ولا تستطيع حواسه إدراكه.
   وجاء الحث على التعقل في أكثر من خمسين آية منها (22) آية اختتمت بكلمة يعقلون. وكلها آيات كونية في الآيات القرآنية دالة على أهمية العقل وتعقله لما يحيط به من ظواهر وموجودات.
قال تعالى: “إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” (البقرة/164).

أخبر الله تعالى أن في هذه المخلوقات العظيمة آيات، أي أدلة على وحدانية الباري وإلهيته وعظيم سلطانه ورحمته وسائر صفاته ولكنها (لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ): أي لمن لهم عقول يعملونها فيما خلقت له فعلى حسبما من الله على عبده من العمل ينتفع بالآيات ويعرفها بعقله وفكره وتدبره.. والحاصل انه كلما تدبر العقل في هذه المخلوقات وما أودع الله فيها من لطائف البر والحكمة علم بذلك أنها خلقت للحق وبالحق، وأنها صحائف آيات وكتب دلالات على ما أخبر به الله عن نفسه ووحدانيته، وما أخبرت به الرسل من اليوم الآخر وأنها مسخرات ليس لها تدبير ولا استعصاء على مدبرها ومصرفها، فتعرف أن العالم العلوي والسفلي كلهم إليه مفتقرون، واليه صامدون، وأنه الغني بالذات عن جميع المخلوقات، فلا إله إلا الله ولا رب سواه)(تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، عبدالرحمن بن ناصر السعدي(.

وقال تعالى: ” ُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ{10} يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ{11} وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ{12} وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ{13} وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ{14} وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ{15} وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ{16} أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ{17} وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ{18} ” (النحل/9-18).

يدلل الله على كمال قدرته، الذي أنزل هذا الماء من السحاب الرقيق اللطيف ورحمته، حيث جعل فيه ماء غزيرا منه يشربون، وتشرب مواشيهم ويسقون منه حروثهم فتخرج لهم الثمرات الكثيرة والنعم الغزيرة.   وسخر لكم هذه الأشياء لمنافعكم وأنواع مصالحكم، بحيث لا تستغنون عنها أبدا، فبالليل تسكنون وتنامون وتستريحون وبالنهار تنتشرون في معايشكم ومنافع دينكم ودنياكم، وبالشمس والقمر من الضياء والنور والإشراق وإصلاح الأشجار والثمار والنبات وتجفيف الرطوبات وإزالة البرودة الضارة للأرض والأبدان والهداية في ظلمات البر والبحر ومعرفة الأوقات وحساب الأزمنة (والقيام بعملية البناء الضوئي وإنتاج النبات للغذاء لباقي الكائنات الحية الحيوانية والكائنات الحية الدقيقة) ما تتنوع دلالاتها وتتصرف آياتها ولهذا جمعها في قوله: ” إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ” أي لمن لهم عقول يستعملونها في التدبر والتفكير فيما هي مهيأة له مستعدة تعقل ما تراه وتسمعه، لا كنظر الغافلين الذين حظهم من النظر حظ البهائم التي لا عقل لها.

وذرأ الله ونشر للعباد كل ما على وجه الأرض من حيوان وأشجار ونبات (وما جعل تحت الثرى من كائنات حية دقيقة وحيوانات أولية بالملايين تقوم بتخصيب الأرض وإحيائها) وغير ذلك مما تختلف ألوانه وتختلف منافعه آية على كمال قدرة الله وعميق إحسانه وسعة بره وإنه الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له ” لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” أي يستحضرون في ذاكرتهم ما ينفعهم من العلم النافع ويتأملون ما دعاهم الله إلى التأمل فيه حتى يتذكروا بذلك ما هو دليل عليه.

وهو وحده لا شريك له (الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ) وهيأه لمنافعكم المتنوعة ” لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً” وهو السمك والحوت (والقواقع والقشريات) الذي تصطادونه “وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا” فتزيدكم جمالا وحسنا إلى حسنكم ” وَتَرَى الْفُلْكَ ” أي السفن والمراكب ” مَوَاخِرَ فِيهِ” أي تمخر البحر (العجاج) الهائل بمقدمها حتى تسلك فيه من قطر إلى آخر تحمل المسافرين وأرزاقهم وأمتعتهم وتجارتهم (وخاماتهم) التي يطلبون بها الأرزاق وفضل الله عليهم ” وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ” الذي يسر لكم هذه الأشياء وهيأها وتثنون على الله الذي من بها، فلله تعالى الحمد والشكر والثناء، حيث أعطى العباد من مصالحهم ومنافعهم فوق ما يطلبون وأعلى مما (يتصورون) ويتمنون، وآتاهم من كل ما سألوه لا نحصي ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه.

(وَأَلْقَى) الله تعالى لأجل عباده (فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ) وهي الجبال العظام، لئلا تميد بهم وتضطرب بالخلق، فيتمكنون من حرث الأرض والبناء والسير عليها، ومن رحمته تعالى أن جعل فيها انهارا يسوقها من أرض بعيدة إلى أرض مضطرة إليها لسقيهم وسقي مواشيهم وحروثهم وأنهارا على وجه الأرض وأنهارا في بطنها يستخرجونها بحفرها حتى يصلوا إليها فيستخرجوها بما سخر الله لهم من الدوالي والآلات ونحوها، ومن رحمته أن جعل في الأرض سبلا: أي طرقا توصل إلى الديار المتتالية ” لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ”: السبيل إليها، حتى أنك ترى أرضا مشتبكة بالجبال مسلسلة فيها، وقد جعل الله فيما بينها منافذ ومسالك للسالكين.

ولما ذكر الله تعالى من المخلوقات العظيمة وما أنعم به من النعم العميمة، ذكر أنه لا يشبهه أحد ولا كفء له ولا ند له فقال: ” أَفَمَن يَخْلُقُ”: جميع المخلوقات، وهو الفعال لما يريد ” كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ” شيئا لا قليلا ولا كثيرا ” أَفَلا تَذَكَّرُونَ”، فتعرفون أن المنفرد بالخلق أحق بالعبادة كلها، فكما أنه واحد في خلقه وتدبيره، فإنه واحد في إلهيته وتوحيده وعبادته، كما أنه ليس له مشارك إذ أنشأكم وأنشأ غيركم، فلا تجعلوا له أندادا في عبادته بل اخلصوا له الدين ” وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ ” عددا مجردا من الشكر ” لاَ تُحْصُوهَا ” فضلا من كونكم تشكرونها، فإن نعمة الله الظاهرة و الباطنة على العباد بعدد الأنفاس واللحظات، من جميع أصناف النعم، مما يعرف العباد ومما لا يعرفون وما يدفع عنهم من النقم فأكثر من أن تحصى “إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ” يرضى منكم باليسير من الشكر مع أنعامه الكثير (تيسير الكريم الرحمن) مع تصرف قليل.

وكل هذه النعم والعمليات وتنظيمها وإبداعها وخلقها تدل دلالة علمية عقلية على أن الخالق قادر ومنعم ورحيم ورؤوف وهو وحده القادر أنزل إليكم القرآن لتتدبروا آياته وتعملوا بأحكامه وتتخلقوا بأخلاقه.

نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – مع الصائمين – العدد(11839) – الأحد 22 أغسطس 2010م – 12 رمضان 1431هـ