ظن كثير من المسلمين لفترات طويلة أن حب الوطن والمواطنة والوطنية أمور تتنافى مع عقيدة المسلم ودينه، وأدت بعض الفتاوى في هذا المجال إلى هجرة المسلمين لإسبانيا إلى بلاد المغرب العربي وقد تبين خطورة هذه المعتقدات الخاطئة في حب الوطن والوطنية والمواطنة والدفاع عن الوطن، وقد فطن علماء المسلمين إلى خطورة هذا الفهم الخاطئ – خاصة عند بعض شباب المسلمين – فنشطوا في بيان التوافق الشرعي بين الوطنية وحب الوطن وعقيدة المسلم، لذلك كان حب الوطن والوطنية والمواطنة الصالحة من دعائم بناء الشخصية الإسلامية الناجحة الناجية والسوية القوية،
وقد أراد أحد الدعاة أن يطبق فتوى إسبانيا على فلسطين فتصدى له علماء المسلمين حتى تراجع عن فتواه وفهمه الخاطئ لحب الوطن والمواطنة، ويكفي أن المسلمين حفروا الخندق في غزوة الأحزاب للدفاع عن المدينة والدولة الإسلامية ووردت آيات قرآنية عديدة في الوطن والوطنية منها قول الله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون) (الممتحنة 8-9).
وقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إلى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إسرائيل مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِين) (البقرة 246).
وقال تعالى: (لَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أو اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) (النساء 66).
وقال تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) (الحج 39-40)، وقال تعالى: (ألا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أول مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (التوبة 13).
من الآيات السابقة نستنج أن:
القرآن الكريم جعل الوطن قرين الروح والإخراج منه مثل القتل سواء بسواء.
وهي آيات صريحة في وجوب قتال كل من أخرج أو ساعد على إخراج الإنسان من موطنه وبلده مثلما حدث في إسبانيا وفلسطين والبوسنة وكوسوفو وكشمير وبعض مناطق ميانمار والعراق.
ولذلك جعل القرآن الكريم استقلال الوطن الذي هو ثمرة لوطنية أهله وبسالتهم في الدفاع عنه، وجعل ذلك (حياة) لأهل هذا الوطن بينما عبر عن الذين فرطوا في الوطنية ومن ثم استقلال وطنهم بأنهم (أموات)، وجعل من عودة الروح الوطنية إلى الذين سبق لهم التفريط فيها عودة لروح الحياة إلى الذين سبق أن أصابهم الموت والموات، فالذين خرجوا من ديارهم وليس الذين أخرجوا لضعف في وطنيتهم جعلهم يحذرون الموت هم أموات مع أنهم ألوف يأكلون ويشربون، وعودة الوطنية إليهم واستخلاصهم لوطنهم حياة لهم بعد الموات (معركة المصطلحات في الغرب والإسلام، محمد عمارة (ص196).
وفي السنة النبوية الصحيحة والسيرة النبوية المطهرة وحياة الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين لهم بإحسان تأكيد على حب الوطن والوطنية فقد روى البخاري رضي الله عنه بسنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا لمكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعنا وفي مدنا، وصححها لنا، وانقل حماها إلى الجحفة) (جزء من حديث رواه البخاري).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع له أحد، قال: (هذا جبل يحبنا ونحبه) أخرجه البخاري.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر فأبصر درجات (مرتفعات) المدينة أوضع أي أسرع ناقته، وإن كانت دابة حركها قال ابن حجر (في الفتح) وحركها: أي حرك دابته بسبب حبه المدينة، وفي هذا دلالة على فضل المدينة، وعلى مشروعية حب الوطن والحنين إليه.
وفي غزوة الخندق شاور المصطفى صلى الله عليه وسلم أصحابه، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق حول المدينة فأعجب بذلك المسلمون، فخرجوا من المدينة، وعسكر بهم رسول الله صلى الله وسلم في سفح جبل سلع (جبل بسوق المدينة) وكل هذه أدلة على تربية المصطفى صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم والمسلمين من بعدهم على حب الوطن والدفاع عنه وجعله من مقومات حياتهم ومن دعامات نجاحهم ونجاتهم.
وعندما أنشد بلال هذه الأبيات حبًا في مكة:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يومًا مياه مجنة هل يبدون لي شامة وطفيل
قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: (اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد) رواه البخاري.
وهذا حنين لموطن عاش فيه بلال لا يمحى من الذاكرة والقلوب أثارها ومياهها ونباتها البرى (إذخر) رغم ما لاقاه من المشركين في مكة، فإن ذلك لم يقلل من حبه لمكة موطنه العزيز على قلبه والقريب من نفسه.
وعندما يتربى المسلم على حب الوطن والوطنية والمواطنة الصالحة ويصبح حب الوطن من مقومات بناء شخصيته الرئيسة والأصلية، فإنه يعمل على تقدم وطنه ورقيه ويخلص في تنمية موارده، ويحافظ على ثروته، ولا يفسد في بيئته، ويخلص في عمله ويتقنه ويدافع عنه بماله ونفسه وولده ويتجنب الفتن الطائفية والعرقية والمذهبية، وكل ما يؤدي إلى التنازع والفشل وضياع أمن وقوة الوطن، ويتجنب كل ما يسيء إلى وطنه وإخوانه في الوطن وإن أصابه مكروه في وطنه فلا يكرهه وهذا البارودي في منفاه يقول:
يا رب قد طال شوقي إلى وطني
فاحلل وثاقي وألحقني بأشباهي
وأشباهه أي أقرانه في وطنه. فحب الوطن والمواطنة الصالحة من دعائم النجاح في الحياة للإنسان والنجاة في الدنيا والآخرة. (وللحديث بقية بإذن الله).
نشرت هذه المقالة في جريدة أخبار الخليج – مع الصائمين – العدد ١٥٠٣٥ – السبت ٢٥ مايو ٢٠١٩م ، الموافق ٢٠ رمضان ١٤٤٠ هـ